أسبقية الإسلام في التعامل مع الأوبئة بالحجر الطبي

بقلم: د. شعبان عبد الظاهر
مرت سنوات عمري بحلوها ومرها، بيسرها وعسرها، بعذبها وصعبها، ما رأيت وما سمعت عن مثل ما نحن فيه الآن، ذعر وهلع، خوف ورعب، أزمة وبائية ضربت الأرض غربَا وشرقًا، وأصابت العالمين برًا وبحرًا، ولم تأمن منها دولة ولم يسلم منها قطر، وأصبح الجميع خائفًا وجلًا، وصرنا بين من قضى نحبه ومن ينتظر.
وأمام هذه الحقائق المشاهدة، كثرت الإشاعات وتعددت التحليلات، وصار فيروس كورونا متهم في شهادة ميلاده وفي أصله، ويتدوال ما بين نظرية المؤمرة وما بين الحقيقة والوهم، فقيل أنه غاز السارين، أو أنه العقاب الرباني – حاشا لله – الوارد في سورة المدثر، ومن ينشر قصاصات من كتب عفا عليها الزمن – لو صحت – أنها تنبأت بهذا الفيروس منذ مئات السنين، وبين مفسر أن ذلك من غضب الله، وأننا لما هجرنا المساجد أغلقها الله علينا، ونسي المدعي بذلك أن الملاهي والمراقص ودور السينما والمسرح كل ذلك أصبح مغلقًا.
وعلى كل حال نحن أمام حقيقة لا تنكر، وواقع مشاهد للعيان، كل ذلك دفعني إلى البحث عن العدوى وكيفية الوقاية في الإسلام، فوجدت أن الإسلام هو الأسبق في تقرير الحجر الصحي عند انتشار الأوبئة، فقد تعامل النبي وأصحابه مع الأوبئة بالحجر الطبي، فعن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: “لا يورد ممرض على مصح”، وأورد البخاري بابًا بعنوان: كراهة الخروج من بلد وقع فيها الوباء فرارًا منه وكراهة القدوم عليه، وذكر فيه قول الله تعالى: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ}. [النساء:78]. وقال تعالى: لآوَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:195]،
وعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّه عَنْهُمَا أنَّ عُمَر بْنِ الْخَطَّابِ – رضي الله عنه – خَرَجَ إلَى الشَّامِ حَتَّى إذَا كَانَ بِسَرْغٍ لَقِيَهُ أُمَراءُ الأجْنَادِ أبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الجَرَّاحِ وَأصْحَابُهُ فَأَخْبَرُوهُ أنَّ الْوبَاءَ قَدْ وَقَعَ بالشَّامِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَقَالَ لي عُمَرُ: ادْعُ لِي المُهاجرِين الأوَّلِينَ فَدَعَوتُهم، فَاسْتَشَارهم، وَأَخْبرَهُم أنَّ الْوَبَاءَ قَدْ وَقَعَ بِالشَّامِ، فَاخْتلَفوا، فَقَالَ بَعْصُهُمْ: خَرَجْتَ لأَمْرٍ، وَلاَ نَرَى أنْ تَرْجِعَ عَنْهُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعَكَ بَقِيَّة النَّاسِ وَأصْحَابُ رسُولِ اللَّه ﷺ، وَلا نَرَى أنْ تُقْدِمَهُم عَلَى هَذَا الْوَبَاءِ، فَقَالَ: ارْتَفِعُوا عَنِّي، ثُمَّ قَالَ: ادْعُ لِي الأَنْصَارَ، فَدعَوتُهُم، فَاسْتَشَارهمْ، فَسَلَكُوا سَبِيلَ المُهاجرِين، وَاختَلَفوا كَاخْتلافهم، فَقَال: ارْتَفِعُوا عَنِي، ثُمَّ قَالَ: ادْعُ لِي مَنْ كَانَ هَا هُنَا مِنْ مَشْيَخَةِ قُرَيْشٍ مِنْ مُهَاجِرةِ الْفَتْحِ، فَدَعَوْتُهُمْ، فَلَمْ يَخْتَلِفْ عَلَيْهِ مِنْهُمْ رَجُلانِ، فَقَالُوا: نَرَى أنْ تَرْجِعَ بِالنَّاسِ وَلاَ تُقْدِمَهُم عَلَى هَذَا الْوَبَاءِ، فَنَادى عُمَرُ رضي الله عنه في النَّاسِ: إنِّي مُصْبِحٌ عَلَى ظَهْرِ، فَأَصْبِحُوا عَلَيْهِ. فَقَال أبُو عُبَيْدَةَ بْن الجَرَّاحِ رضي الله عنه: أَفِرَارًا مِنْ قَدَرِ اللَّه؟ فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: لَوْ غَيْرُكَ قَالَهَا يَا أبَا عُبيْدَةَ، وكَانَ عُمَرُ يَكْرَهُ خِلافَهُ، نَعَمْ نَفِرُّ منْ قَدَرِ اللَّه إلى قَدَرِ اللَّه، أرأَيْتَ لَوْ كَانَ لَكَ إبِلٌ، فَهَبَطَتْ وَادِيًا لهُ عُدْوَتَانِ، إحْدَاهُمَا خَصْبةٌ، والأخْرَى جَدْبَةٌ، ألَيْسَ إنْ رَعَيْتَ الخَصْبَةَ رعَيْتَهَا بقَدَرِ اللَّه، وإنْ رَعَيْتَ الجَدْبَةَ رعَيْتَهَا بِقَدَر اللَّه،
قَالَ: فجَاءَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ رضي الله عنه، وَكَانَ مُتَغَيِّبًا في بَعْضِ حَاجَتِهِ، فَقَال: إنَّ عِنْدِي مِنْ هَذَا عِلْمًا، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّه ﷺ يَقُولُ: إذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأرْضٍ، فلاَ تَقْدمُوا عَلَيْهِ، وإذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا، فَلا تخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ فَحَمِدَ اللَّه تَعَالى عُمَرُ رضي الله عنه وَانْصَرَفَ، متفقٌ عَلَيْهِ. وَعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رضي الله عنه عنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: إذَا سمِعْتُمْ الطَّاعُونَ بِأَرْضٍ، فَلاَ تَدْخُلُوهَا، وَإذَا وقَعَ بِأَرْضٍ، وَأَنْتُمْ فِيهَا، فَلاَ تَخْرُجُوا مِنْهَا. [متفقٌ عليهِ].
وبعد انصراف عمر، رضي الله عنه، حصل الطَّاعون الجارف، وكانت شدَّته بالشام، فهلك به خلقٌ كثيرٌ، ولم يرتفع عنهم الوباء إِلا بعد أن وليهم عمرو بن العاص، فخطب النَّاس، وقال لهم: أيُّها الناس إِنَّ هذا الوجع إِذا وقع إِنما يشتعل اشتعال النَّار، فتجنَّبوا منه في الجبال، فخرج، وخرج النّاس، فتفرقوا حتّى رفعه الله عنهم، فبلغ عمر ما فعله عمرو، فما كرهه، وعن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، أنها أخبرتنا أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الطاعون، فأخبرها نبي الله صلى الله عليه وسلم: أنه كان عذابًا يبعثه الله على من يشاء فجعله الله رحمة للمؤمنين فليس من عبد يقع الطاعون فيمكث في بلده صابرًا يعلم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له إلا كان له مثل أجر الشهيد”، قال ابن حجر: “لعل السر في التعبير بالمثلية مع ثبوت التصريح بأن من مات بالطاعون كان شهيدًا، أن من لم يمت من هؤلاء بالطاعون كان له مثل أجر الشهيد وإن لم تحصل له درجة الشهادة بعينها وذلك أن من اتصف بكونه شهيدًا أعلى درجة ممن وعد بأنه يعطى مثل أجر الشهيد، وأما ما اقتضاه مفهوم الحديث أن من اتصف بالصفات المذكورة ووقع به الطاعون ثم لم يمت منه، أنه يحصل له ثواب الشهيد، فيشهد له حديث ابن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إن أكثر شهداء أمتي لأصحاب الفرش”، وعَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: الْإِيمَانُ بِاللَّهِ وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ قَالَ: قُلْتُ: أَيُّ الرِّقَابِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: أَنْفَسُهَا عِنْدَ أَهْلِهَا وَأَكْثَرُهَا ثَمَنًا قَالَ: قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ أَفْعَلْ؟ قَالَ: تُعِينُ صَانِعًا أَوْ تَصْنَعُ لِأَخْرَقَ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ ضَعُفْتُ عَنْ بَعْضِ الْعَمَلِ؟ قَالَ: تَكُفُّ شَرَّكَ عَنِ النَّاسِ فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ مِنْكَ عَلَى نَفْسِكَ”.
وكل ذلك لا ينافي الأخذ بالأسباب، ولا يتعارض مع التوكل على الله والإبمان بالقدر، لقوله صلى الله عليه وسلم: “اعقلها وتوكل”، وقوله: “لا عدوي ولا طيرة”، وقوله: “فر من المجذوم فرارك من الأسد”، وهو قول جمهور العلماء، وعليه الأطباء كافة، ويشهد له أن النبي صلى الله عليه وسلم خاطب قوماً، يعتقدون أن الشيء يُعدي بنفسه، فقوله: لا عدوى، متوجه إلى هذا الاعتقاد يوضحه: ما قاله الحافظ ابن رجب في لطائف المعارف: وأظهر ما قيل في ذلك: أنه نفي لما كان يعتقده أهل الجاهلية من أن هذه الأمراض تعدي بطبعها من غير اعتقاد تقدير الله لذلك، ويدل على هذا قوله: فمن أعدى الأول؟ يشير إلى أن الأول، إنما جرب بقضاء الله وقدره فكذلك الثاني وما بعده، فأما نهيه صلى الله عليه وسلم عن إيراد الممرض على المصح وأمره بالفرار من المجذوم ونهيه عن الدخول إلى موضع الطاعون، فإنه من باب اجتناب الأسباب التي خلقها الله تعالى وجعلها أسباب ًا للهلاك أو الأذى، والعبد مأمور باتقاء أسباب البلاء، وذلك إذا كان في عافية منها، فكما أنه يؤمر أن لا يلقي نفسه في موارد التهلكة، ومما جرت العادة بأنه يهلك، أو يؤذي فكذلك اجتناب مقاربة المريض كالمجذوم، أو القدوم على بلد الطاعون، فإن هذه كلها أسباب للمرض والتلف، والله تعالى هو خالق الأسباب ومسبباتها، لا خالق غيره ولا مقدر غيره.
وعلى ذلك فإن الواجب علينا اجتناب ما فيه مظنة الهلاك والمرض، واتباع أسباب الوقاية والعلاج التي يحددها المتخصصون من الأطباء، فهم أهل الذكر في هذا الشأن، وهو فارس الميدان في ذاك الزمان.

دكتوراه في القانون كلية الحقوق جامعة المنصورة