الفن والثقافة

العمة فاطو ..قصة قصيرة

بقلم / سعيد حسن

وقفت السيارة الكبوت امام منزلها، انزل قدماي مودعا اقاربي النسوة اللاتي كنت بصحبتهم في السفر الطويل، هذه اول مرة تطأ قدماي تهجير النوبة في قريتنا الصغيرة، الثانية عشر بعد منتصف الليل، الظلام يكسو الشارع عتمه، هناك بعض لمبات الإنارة الضعيفة فوق ابواب البيوت المتراصة، دلفت من باب البيت المفتوح دائما، للممر الموصل الي حوش منزل.، العمة فاطو (فاطمة ) تجلس علي الارض تغسل ثياب زوجها العجوز داخل طشت نحاسي قديم ورثته عن والدتها، جاءت به من نوبتنا الغارقة.

قامت تحتضنني في لهفة شديدة، اشتم من شالها الاسود رائحة الصندل والمحلبية، تضمني وكأني ابنها العائد بعد طول غياب، فلم يرزقها الله بنعمة الولد.

كنت حينها اول مرة اراها، ملامح وجهها مألوفة، فهي تشبه والدي كثيرا وبعض من ملامح اعمامي.. اخلع ملابسي داخل الحجرة الأولي امام المندرة . لارتدي ثياب نومي.

تدخل العمة لتحضر لي الطعام. اجلس علي عنجريب مصنوع من الجريد في منتصف حوش المنزل المطل علي السماء. نسمات الهواء ليلية دافئة، سكون تام يحل بالقرية، فأغلب أهل قريتي ينامون بعد صلاة العشاء للصحو مبكرا، فاغلبهم مزارعون، لا اسمع سوي أصوات نباح الكلاب البعيدة.

بات أمامي طعام العشاء الخبز الشدي الرقيق واللبن الساخن الممزوج بالسمن البلدي، كنت حزينا مهموما لبعدي مسافات طويلة عن بيتنا بالجيزة عن اخوتي ووالدتي، سالت دمعة علي خدي، افكر في حيرة، يغلبني النوم بعد تعب شاق من وعثاء السفر لساعات طويلة بقطار الدرجة الثالثة.

افيق.. أصوات اليمام فوق راسي علي السقف المفتوح، اشعة شمس الجنوبية الساخنة تطل علي جنبات البيت، العمة تصحو مبكرا تتوضا بابريق الماء النحاسي وتتمتم بكلمات وتسابيح لتصلي الضحي، تعد فطور زوجها قبل أن يذهب الي الحقل، دلفت الي الحوش أمام بيتها لتحلب الماعز وتجمع بيض الدجاج، خلف الحوش حديقتها تزدان باشجار العنب والجوافة والبرتقال واحواض البصل وبعض اشجار النخيل، تتحرك بنشاط بين جنبات البيت الواسع لتنتهي بغرفة (الديون ترسي) الدوكة، الغرفة تكاد تكون مظلمة تنسدل اشعة الشمس بين عيدان النخيل والجريد المنكسر اعلي السقف، تنشيء خيوطا من الضوء تختلط بدخان النار الموقدة، تزيد بيدها عيدان البوص والقش الي اللهب لتلهب الدوكة وتضع العجين المخمر في يدها وتفرده بشكل دائري.. لحظات.. ينضج “الشدي” الخبز النوبي الرقيق لذيذ الطعم طازجا مقرمشا عند الحواف طريا من الوسط، وأمامها غرفة الخزانة بها صندوق خشبي كبير يفتح من اعلي عليه نقوش نوبية ورسومات هندسية بالوان زاهية، تخزن فيه السكر والشاي وأشياء اخري أرادت أن تحتفظ بها عند الحاجة.

مازلت أقف في دهشة أمام العمة احتسي كوب الشاي بحليب واتابع ما تصنعه من شرائح الشدي الكبيرة.

خير وفير ببيتها، فهي لا ترد حاجة لأحد من جيرانها النسوة، وعلي مر السنين والايام بها.. كان بيتها ملاذا لي ولابناء عمي تكرمنا فيه.

ذهبت طفولتي، انهيت دراستي الثانوية، غادرت القرية، عائدا الي مصر ، الي بيتنا، شوارع الحي الضيقة، اصدقائي، مرت السنين.. تكالبت أمراض الشيخوخة عليها، بعد ان ناهزت الثمانين من عمرها، اشتد المرض عليها، شملها عمي سيد احمد بعطفه، اخذها لبيته ليرعاها، ظلت لعامين ببيته حتي ماتت حزنت لفراقها حزنا شديدا.

عدت لقريتنا بعد ان تزوجت واصبحت في اواخر العقد الثالث من عمري، توجهت الي بيتها، أصبح غريبا يسكنه ورثة زوجها، منزوع البركة، وخضرة حديقتها تكسوها السواد بعد أن تم احراقها، لا نخيل.. لا أشجار.. الحوش أصبح فارغا.. تغيرت ملامح الشارع.. القرية كلها.. وقفت وعيناي تزرف الدموع .. علي فقدانها.. روحها في المكان.. وخيرها المفقود.

 

 

 

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.