قبل الأوان

قصة قصيرة بقلم / المهندس أيمن سلامة
تتساقط قطرات العرق إثر لهيب الشمس الحارة ، وقد حفرت لنفسها طريقاً عبر تجاعيد وجه العجوز ، الذى إنحني ظهره تحت ثقل حمل صندوق ثقيل من سعف النخيل ملئ بالقش والأكواب الزجاجية . وقد تشبثت يداه بالصندوق حتى لا ينفلت من على ظهره . ويجر قدماه الهزيلتان بصعوبة وبطء أثناء قيامه بعمله لتوصيل الصندوق من المخزن القابع داخل حوارى الحى إلى المحل الذى يتوسط الشارع الرئيسي . في رحلة تتكرر عدة مرات يومياً من خلال مسار واحد لا يتغير .
كانت للعجوز إستراحة واحدة محددة إختارها العجوز لنفسه ، عندما يضع حمله على رصيف مرتفع أمام محل البقالة الوحيد بالشارع . و يجلس بجواره لدقائق يتصبب عرقا ولا يكاد يقدر على أن يرفع رأسه المنحنية بحكم ثقل السنين وتقدم العمر ملوحاً بمنديل قديم تغير لونه الأصلي منذ زمن بعيد لعلّه يجلبُ بعض الهواء الرطب إلى وجهه المتعب . و بعد أن يشرب بعض الماء البارد من القلل المرصوصة أمام المحل , يستعين العجوز ببعض المارة من شباب الحىّ ليرفعوا الحمل على ظهره المنحنى ليكمل طريقه المعتاد إلى المحل الرئيسي الذى يملكه تاجرٌ يُعرف بالبخل وغلظة الطِباع.
إعتاد سكان الشارع على رحلة العجوز اليومية ، وحاول الكثيرون مساعدته ولكنه دائماً ما كان يرفض المساعدة . وبعد إلحاح منى لمساعدته قبل العجوز أن أشترى له عبوة كيس من البن ليشرب القهوة التي تعود عليها كل مساء في حجرته المتواضعة الكائنة بالدور الأرضي بأحد البيوت القديمة بالحي .
ذهبت اليه في المساء حاملاً الهدية التي حددها بنفسه , فدعاني لفنجان من القهوة في غرفته القديمة المتواضعة للغاية ، فدخلت محرجاً ، وجلست أراقبه وهو يصنع القهوة وقد جهز لها مسبقاً ما يلزمها من أدوات ، وفي الوقت نفسه لا ينقطع عن التسبيح ممسكاً بمسبحة طويلة في يده , وتتمايل رأسه المنحنية مع كلمات التسبيح , وبعد أن نضجت القهوة أخذ يصبُها في الفناجين القديمة بيدٍ مرتعشة ، و شربنا القهوة صامتين ثم استأذنت للانصراف .
عندما قمت من مجلسى استعداداً للإنصراف طلب منى العجوز الإنتظار . و بادرني قائلاً: شايف يا إبنى في عينيك كلام إتكلم . فقلت له مازحاً و محرجاً منه: من يوم ما وعيت على الدنيا ..طول عمرى أشوفك عجوز ..إيه حكايتك يا جدو ؟؟؟، هو إنت إتولدت عجوز ؟ .فصمت العجوز بعض الوقت والتقط أنفاسه بصعوبة ..ولمحت الدموع تترقرق متجمدة في عينيه وقال:.يا إبنى العجز مش في الجسم بس.. ده إحساس بيتولد معانا و بيعيش جوانا والسعيد منا إللي يعرفه في ميعاده.. والحزين إللي يعرفه قبل الأوان.