الفن والثقافة

الدنيا ربيع

قصة قصيرة / بقلم المهندس أيمن سلامة

في إحدى ليالي الشتاء الباردة، وبينما كنت انتظر صديقي بداخل المقهى الشبه خالي من رواده بسبب برودة الجو، دخل المقهى رجل في العقد السادس من عمره، رثُ الثياب ومُـجهد، تحفر آثار السنين وجهه بتجاعيد عميقة، ألقى التحية بصوت خافت على صاحب المقهى القابع خلف مكتبه الصغير، ثم جلس بجواري مباشرة، دونما استئذان، كأنما كُنا على موعد مسبق.

لم أهتم بالأمر كثيرا، وانشغلت بمطالعة الأخبار من شاشة تليفوني، وانتبهت من استغراقي في ذلك العالم الافتراضي الى صوت الرجل وهو يتوجه ناحيتي و يتحدث بصوته الخافت قائلا ” مش قلت لك يا استاذ “،  فوجئت بما يقول وطريقة كلامه، وحاولت عبثاً البحث في ذاكرتي عن شيء ما يربطني بهذا الرجل من قبل، و توجهت بناظري لصاحب المقهى مستنجداً به، لعله يخرجني من هذه الورطة، لكنه كان مشغولا بـإمرٍ ما ولم ينتبه لي، ثم نظرت الى الرجل مستفسراً عن أي شيء يتحدث، ولكنه لم ينتظر استفساري بل تابع حديثه قائلا ” انا مش اكره انهم يكونوا كويسين، وعندهم اللي يكفيهم، لكن من فين؟”.

ظللت صامتاً، احاول ان افهم من كلامه ما هو الموضوع، وما علاقتي به، وقلت لنفسي ربما الرجل يكون مهموماً بهموم الحياة المعتادة، وأراد ان يتحدث بها الى أحد ما لكى يخفف العبء عن صدره، فقلت له مسايراً مُجريات الحديث ” معاك حق الدنيا اصبحت صعبة الايام دي”، فتابع حديثه قائلا “هما قاعدين ينتظروني كل يوم، وساعة ما اروح يفتكروا ان معايا حاجات كتير لهم، لكن من فين ما انت عارف يا استاذ”، فحاولت أن أهون الامور عليه ورددت  قائلا   ” احنا كلنا كده يا حاج دلوقت الدنيا صعبة علينا كلنا “.

صمت قليلا، وقد استغرق للحظات باستمتاع وهو يدخن الشيشة ويحتسى الشاي، ويطلق بعض الزفرات التي تشعرك أنه قد اعتدل مزاجه، وامتلك العالم كله، ثم استطرد قائلا “بس احنا غلطانين يا استاذ كان لازم نعلم اولادنا ان ايام الدنيا مش كلها ربيع ” فقلت له “يعنى ايه يا حاج؟؟”، فنظر إلىّ و قد خَفُت صوته اكثر من ذي قبل، وكأنما يدلى لي بسر خطير “يا استاذ لازم تعرف، ان احسن ايام في السنة هي ايام الربيع، لكن الربيع مش دايم، في شتاء بارد، وصيف حار، وخريف وسط بين الشاء والصيف، يعنى ايام الدنيا مش كلها ربيع، وحال الدنيا مع الناس كده برضه مش ها تفضل ربيع معاهم على طول”، استمعت لصوته الخافت بصعوبة وتأملت كلماته، فوجدتها بالغة الحكمة، فقلت له “معاك حق يا حاج، كلامك صحيح”.

ساد الصمت بيننا لبعض الوقت، انتبهت لطول غياب صديقي، فطالعت تليفوني فوجدت رسالة منه تخبرني باعتذاره عن الحضور، فعزمت على الانصراف، القيت التحية على الرجل بجواري، وذهبت لمحاسبة صاحب المقهى فدفعت حسابي وحساب الرجل الذى لا اعرفه اشفاقا على حالته، واستفسرت من صاحب المقهى عنه وعن اسرته فقال ” انت تقصد عم ابراهيم، ما تاخدش على كلامه يا استاذ، الرجل اصلا مش متجوز، ولا عنده عيال، تلاقيه قالك الكلمتين بتوع الدنيا ربيع، مش كده”. فقلت له “فعلا يا معلم قالهم لي”، فأجابني بأسى “ربنا يلطف به “.

الدنيا ربيع 2
المهندس أيمن سلامة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.