مفهوم الكون الكبير (7).. خصائص وآمال حول مفهوم الكون
خصائص مفهوم الكون في العلوم الشرعية:
تتناول هذه السلسلة من المقالات المفهوم الشرعي للكون -وفقا لنصوص القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة- وهو الذي تم عرض فكرة موجزة عنه في المقالات السابقة، وتهدف المقالات التالية من هذه السلسلة إلى استعراض تفاصيل أكثر عن ذلك المفهوم للكون، الذي يتميز بالخصائص التالية:
أولا: الشمول:
وذلك لأنه يشير إلى جميع ما يأذن به الخالق سبحانه وتعالى للبشر أن يعرفونه من مخلوقات عظيمة تتضمن السماوات السبع والأرضين السبع والكرسي والعرش والملائكة، كما أن هذا المفهوم لا يقتصر على طرح علاقات تلك المكونات بعضها ببعض في هذه الحياة الدنيا، بل يستكمل شموله بطرح أبعاد العلاقة بين تلك المكونات في اليوم الآخر -يوم القيامة-، كما يتضح لمن يدرس هذه النصوص.
ثانيا: بساطة العرض:
بحيث لا يصعب على أقل البشر علما استيعاب تلك الأبعاد الضخمة وكذلك أكثرهم علما سواءا بسواء.
ثالثا: الواقعية:
فهو يخاطب العقل البشري المحدود بما يلمسه من الكون، ثم ينتقل به للمفاهيم الأكبر بطريقة واضحة وواقعية وسهلة الاستيعاب.
وقد وصف القرآن الكريم ذلك في الآية 18 من سورة النجم في قوله تعالى: ((مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18)) فهذه الرؤية اختص بها رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم، ويأمل كاتب هذه السطور أن يعرض في المقالات التالية تفاصيل وصف مكونات الكون في العلوم الشرعية بطريقة توضح الخصائص المذكورة أعلاه.
ويظن الباحث أن هذه الخصائص للطرح القرآني والنبوي لمكونات الكون تؤكد بوضوح على محدودية العلم البشري الذي يقتصر في تناوله لمفهوم الكون على تلك الكرة الصغيرة المعروفة باسم الكون المدرك، التي تعتبر حلقة في فلاة نسبة لما فوقها من السماوات حتى السماء السابعة، والسماوات مجتمعة تمثل حلقة في فلاة نسبة إلى الكرسي، وكذلك الكرسي بالنسبة إلى العرش… فأين نحن من ذلك الملك العظيم؟
وقد أشار عدنان فقيه (2015) إلى إشكالية توظيف المعارف العلمية في تفسير الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، مؤكدا على أن المعارف العلمية مهما بلغت من القوة فهي محدودة من حيث الصحة في مقابل الحقائق المطلقة التي تذكرها الآيات والأحاديث، ويقترح فقيه (2015) تقسيم الحقائق العلمية إلى نوعين: حقائق مشهودة (مثل كروية الأرض) أي يدركها جميع البشر بحواسهم ويعمل العلم فقط على المساعدة في تحقق هذا الشهود، ومفاهيم مستنتجة (مثل دوران الأرض حول الشمس، والجاذبية) فهي مجرد حلول رياضية لوصف بعض الظواهر الكونية لكن قد تنهار عند ظهور صورة أكثر دقة في المستقبل، فإذا جاز لنا استخدام الحقائق المشهودة في توضيح الإعجاز العلمي في الآيات والأحاديث ووصف مكونات الكون، فينبغي الحذر من استخدام المفاهيم المستنتجة في ذلك مهما كثرت شواهدها.
من هنا يتضح الدور الحقيقي للعلماء المؤمنين بالخالق العظيم في التفريق بين الحقائق المشهودة والمفاهيم المستنتجة بما يحقق الربط الدقيق بين النصوص الشرعية وبين الحقائق العلمية المشهودة، ويقترح كاتب هذه السطور أن تتشكل لجان علمية في كل تخصص من تخصصات العلوم المادية للعمل على تصفية المفاهيم العلمية -كل في تخصصه-، وذلك بهدف إنتاج موسوعات للحقائق العلمية المشهودة. فإن هذا الدور يعتبر من أفضل أبواب البحث العلمي لخدمة القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة.
واقع العلم البشري المعاصر:
إن من ينظر إلى الأدبيات العلمية في العصر الحاضر يلاحظ هيمنة الفكر المادي على غالبية العلماء (بما في ذلك الكثير من العلماء المؤمنين بالله العظيم) فيما بعد عصر النهضة الأوروبية الحديثة وحتى الآن، ويتضح ذلك في الكثير من الإشارات الواضحة التي يقول فيها بعض العلماء لقادة بلادهم: “لا حاجة لفكرة الإله الخالق لأن الكون يجري وفق حتمية القوانين الفيزيائية” … ويقول غيره: “من خلق الإله؟!!!”… ويقول ثالث: “يمكن القول أنه لا إله بل الزمكان!!!”…. ناهيك عن العبث الفكري الكبير في مجالات بدايات الأشياء مثل نشأة الكون، وحقيقة خلق المادة من عدم، وعلم السلالات البشرية (الأنثروبولوجي)، ونظرية التطور العضوي، وخلق الإنسان: هل هو خلق ذاتي أم تطورا عن القردة!… وغير ذلك الكثير.
فمثلا فيما يخص خلق ووصف الكون بما فيه من السماوات السبع والأرضين السبع يقف العلم البشري عند حدود الكون المرئي (الذي يعتبر جزءا من السماء الأولى)، بينما تتعمق الآيات القرآنية والأحاديث النبوية في وصف حقائق غيبية تضيف أبعادا أقوى وأكبر من محدودية الكون المرئي… فإذا تضافرت جهود علماء الشريعة وعلماء الفلك والفيزياء النظرية وغيرهم في تناول هذه القضية بالبحث العلمي الأصيل، فإن ذلك سيضيف إلى البشرية أيما إضافة في مجال تلك العلوم. ويعتبر البحث الحالي -حول مفهوم الكون الكبير- يعتبر محاولة لخوض غمار هذا المعترك الشديد حول مفهوم الكون بين العقل (ممثلا في معطيات العلم الحديث عن الكون) وبين النقل (ممثلا فيما تقدمه الإشارات العلمية في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة حول الكون).
يتضح مما تقدم في هذا المقال وفي المقالات السابقة أن ما يعرف بالكون المدرك لا يكاد يمثل نصف السماء الأولى من السماوات السبع المعروفة من الوحي، وقد أشار بعض العلماء إلى أن مفهوم السماوات السبع لم يتم تناوله ضمن إطار العلوم المادية، فمن علماء الفيزياء من قال: “بل عِلْمَيَّ الكون والفلك لم يتوصلا بعد لمعرفة شيء يذكر عن بناء السماوات السبع أو بناء الأرضين السبع” (عمري، 2004).
آمال التطبيع أو التكامل بين العلوم الشرعية والعلوم المادية:
بناء على ما تقدم يمكن تحديد العلاقة بين العلوم المادية مع العلوم الشرعية، فهناك جوانب غيبية في كل علم من العلوم، بعض هذه الجوانب يمكن للبشر معرفتها من خلال الأدوات البحثية التجريبية (مثل: نوع الجنين، وبعض تراكيب المخ البشري… وغيرها من الأمور التي يمكن لكل متخصص أن يوضحها في حدود تخصصه الدقيق)، وهناك جوانب يستحيل معرفتها إلا من خلال الوحي السماوي (مثل: الروح البشرية، وبنية الكون والسماوات). بالتالي نحتاج في عصرنا الحاضر وبشدة إلى إنهاء الخصام العلماني مع العلوم الدينية الصحيحة، وهناك محاولات في ذلك من العديد من المتخصصين نذكر منها ما يلي:
1) الإسهامات الضخمة في مجالات الإعجاز العلمي في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، جزى الله خيرا جميع من قدموا فيها جهودا كبيرة مباركة كان لها آثار طيبة في هداية الكثير من العلماء الغربيين وغيرهم إلى الحق المبين، إلا أن تلك الإسهامات الضخمة تحتاج وبشدة إلى الالتزام الصارم بالقواعد المتفق عليها في هذا المضمار، وأهم تلك القواعد ضرورة الاعتماد على الحقائق العلمية المثبتة فيما يخص إشارات الإعجاز العلمي والبعد عن النظريات المحتمل خطأها… وهذه النقطة تفتح مجالا واسعا للبحث العلمي في كل مجالات العلوم البشرية تنطلق من بناء موسوعات متكاملة للحقائق العلمية الموثقة أو المشهودة، فتكون أي معلومة علمية خارج تلك الموسوعات ليست من الحقائق العلمية الموثقة، بل تعتبر مفاهيم مستنتجة تتطلب البحث لإثباتها كحقائق.. وبالتالي يمكن للمتحدث في مجالات الإعجاز العلمي أن يعتمد على الحقائق المشهودة دون المفاهيم المستنتجة عند الكلام على الإشارات العلمية في القرآن الكريم وفي الأحاديث النبوية الشريفة.
2) محاولات الجمع الكامل بين النصوص الدينية وبين معطيات العلم الحديث، حيث تؤكد تلك المحاولات على أنه لا تعارض بين النظريات العلمية وبين النصوص الشرعية، وهي جهود مباركة نحسب أن أصحابها يكفيهم الإخلاص في البحث والاستنتاج، لكن بعض هذه المحاولات تحتاج إلى وضع ضوابط دقيقة مثل سابقتها وهناك الكثير من الأمثلة على ذلك يقترح الكاتب ترك البحث فيها إلى اللجان المتخصصة لاحقا بإذن الله.
3) الأبحاث المتميزة نحو تفسير ما يمكن من النصوص الشرعية في ضوء معطيات العلم الحديث، مع الالتزام بشكل كبير بالضوابط المعروفة في التعامل مع النص الشرعي، وتقديم التأويل الشرعي على التأويل العلمي عند الاختلاف بينهما وقيام الدليل على صحة النص الشرعي (انظر على سبيل المثال: كزابر، 2014).
4) مدرسة الأرض الثابتة التي تقدم نموذجا للكون مختلفا اختلافا كليا عن النموذج المعروف لمجرد عدم اتفاق المفهوم المعروف للكون مع تأويل أصحاب تلك المدرسة للنصوص الشرعية (مثل سعيد بن جاموس، 2000) ويتفق في ذلك أيضا كتاب The Earth is not Moving لمؤلفه Marshal Hall (1991)، ويمكن لمن يدقق في هذه المحاولات أن يتثبت من عدم دقة النقل في بعض الأمور التي يعتبرونها أدلة على صحة الاستنتاج، ناهيك عن تجاوز المنهج العلمي في طرح المشكلة للبحث المستفيض ومراجعة النتائج من قبل المتخصصين المحايدين قبل الوصول إلى نتائج نهائية (كما يفعل البحث الحالي حول مفهوم الكون الكبير).
5) مدرسة الأرض المسطحة التي تنكر كروية الأرض، وتقدم بعض الأدلة التي يمكن اعتبارها أدلة صحيحة ضمن بعض القضايا (مثل قضية الجاذبية) لكن يخالف أصحاب تلك المدرسة الكثير من الحقائق الثابتة التي تفيد كروية الأرض.
يؤكد الكاتب الحالي على اتفاقه مع المجموعة الثالثة من الأبحاث الشرعية التي تسعى إلى تفسير ما يمكن من النصوص الشرعية في ضوء معطيات العلم الحديث بالضوابط المذكورة، ويتبنى البحث الحالي ضرورة طرح قضية مفهوم الكون للبحث المشترك بين المتخصصين في العلوم الشرعية وفي العلوم المادية آملا الوصول إلى اتفاق على الحق والحقيقة في هذا المجال الكبير من مجالات العلوم البشرية، فهل إلى تحقيق هذه الآمال من سبيل؟
المراجع:
-جاموس، سعيد (2000): رسالة مفتوحة في أساسيات علوم الكون والبيئة العامة، 98 ص. https://researchgate.net/publication/304498021
-عمري، حسين (2004): خلق الكون بين الآيات القرآنيّة والحقائق العلميّة، مؤتة للبحوث والدّراسات (سلسلة العلوم الإنسانية والاجتماعيّة)، المجلد 19، العدد 4 ، ص 11 –41 . https://xwww.mutah.edu.jo/eijaz/univcreation.htm
-فقيه، عدنان (2015): العلم مفتاح للإعجاز (موقع الشمس والأرض في الإسلام)
-كزابر، عز الدين (2014): كتاب: براءة التفسير والإعجاز العلمي في القرآن من الشكوك عليه، الفصل (أ20) محمد الصادق عرجون. http://kazaaber.blogspot.com/2014/01/20.html
Hall, M. (1991): The Earth is not moving. Fair Education Foundation, 328p.
www.researchgate.net
بقلم: د.سعد كامل
أستاذ مشارك في الجيولوجيا – الإسكندرية – مصر
saadkma2005@yahoo.com