الصراط المستقيم

تأملات قرآنية :”الأجداث”… سرّ البعث الذي غفل عنه كثيرون

من اختيارات / عزة السيد 

قال تعالى:
“وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الْأَجْدَاثِ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ”
(يس – 51)

في مواضع عدّة من القرآن الكريم، يشير الله تعالى إلى أماكن دفن البشر في الدنيا باسم “القبور”، لكن عند الحديث عن لحظة البعث والخروج للحساب، يستخدم مصطلحًا آخر هو “الأجداث”.

فما الفرق؟ ولماذا لم يقل “القبور” كما اعتدنا؟

تأمل هذه الآيات:

  • “خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ” (المعارج – 7)

  • “يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَىٰ نُصُبٍ يُوفِضُونَ” (المعارج – 43)

  • “وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الأَجْدَاثِ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ” (يس – 51)

من هذه الآيات، ندرك أن الخروج يوم القيامة ليس من القبور، بل من الأجداث.

فما الفرق بين “القبور” و”الأجداث”؟

القبور هي الأماكن التي تُدفن فيها الأجساد، وهي معلومة لنا في الدنيا.
لكن ماذا عن الذين لم يُدفنوا أصلًا؟

  • من مات غريقًا وأكلت جسده الأسماك؟

  • من أُحرقت جثته وتبعثرت في الرياح؟

  • من تفرقت عظامه في البراري والتهمتها الوحوش والطيور؟

أين قبرهم؟ لا وجود لقبور لهم.

وهنا تظهر الحكمة الإلهية في استخدام لفظ “الأجداث” بدلًا من “القبور”.
فـ”الأجداث” تشير إلى أماكن مجهولة، أو إلى ذرات الجسد المتناثرة في الأرض، والتي تبقى رغم كل ما يحدث للجسد، مهما تفتت أو تلاشى.

وما الذي يثبت هذا المعنى؟

يقول تعالى:
“وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ” (الانفطار – 4)
أي أن القبور، كأماكن، ستُبعثر وتتلاشى نتيجة زلزلة الأرض وتغير تضاريسها يوم القيامة، لتُمحى آثارها.

لكن البعث لا يحتاج إلى القبور، بل إلى أمر إلهي أعظم…

يقول الله سبحانه:
“وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُّبَارَكًا فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ … كَذَٰلِكَ الْخُرُوجُ” (ق – 11)

هنا التشبيه الإلهي واضح ومهيب:
كما تنبت البذور الميتة في الأرض حين يُصيبها ماء السماء،
كذلك يخرج الإنسان من “أجداثه” يوم القيامة.

إنها البذور البشرية…

ذرات الجسد الدقيقة، التي لا يراها الإنسان، والتي تحفظها الأرض بأمر الله، تنتظر فقط “الماء المبارك” من السماء في زمن البعث، لتُعيد الجسد حيًّا كما يُنبت الزرع.

قال تعالى:
“وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا، ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا” (نوح – 17-18)

فالأرض هي مهد الإنسان ومثواه، وهي التي تُعيد إنباته مرة أخرى.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى