أراء وقراءات

غزة بين الاعتراف والانحراف وكمين حل الدولتين

بقلم أيقونة الاتزان / السفير د. أحمد سمير

 

في الجغرافيا السياسية للشرق الأوسط، هناك دولةٌ تُرى بالعين ولا تُعترف بها في البيت الأبيض، تُذكر في صلوات المسلمين ولا تُسمع في قرارات الكونغرس، يعرفها أطفال المدارس في شيلي وبوليفيا بينما يتلعثم اسمها في نشرات الأخبار الأميركية.

نعم، إنّها فلسطين، تلك التي اعترفت بها حتى الآن أكثر من 157 دولة من أصل 193 دولة عضو في الأمم المتحدة، أي ما يزيد عن 82٪ من سكان الارض ومع ذلك، ما زالت الولايات المتحدة وإسرائيل، ومن خلفهما عدد محدود من الحلفاء “المخلصين”، يصرّون على التصرف كأن الاعتراف العالمي لا يساوي أكثر من “منشور غير موثوق” على فيسبوك.

حل الدولتين.. وصفة ميتة

ولعلّ المفارقة المضحكة المبكية أن أميركا، التي تخصصت في تصدير الديمقراطية بالباراشوت، ما زالت تحاول إقناعنا أنّ “حل الدولتين” هو الحل الواقعي هذا الحل الذي يشبه طبيب يصف للمريض عملية جراحية بعد أن قتل فحل الدولتين لم يعد سوى ديكور سياسي، يستخدمونه في المؤتمرات ليُظهروا حسن النية، ثم يخبئونه في الدرج بجانب أوراق كامب ديفيد وأوسلو و”صفقة القرن”

كما أن إسرائيل تقول اليوم فليذهب العالم كله واعترافهم، فإنا هاهنا مستوطنون” أمّا أميركا فتلعب دور المترجم القانوني، فتستخرج من النصوص الدولية ما يخدم الرواية الإسرائيلية وتلقي الباقي في سلة “الفيتو”

الغريب أنّ إسرائيل، رغم هذا الدعم الأعمى، لم تعد تُقنع أحدًا بخطابها ففي أوروبا مثلًا، أصوات الاعتراف بفلسطين تتزايد ككرة الثلج حتى أنّ بعض شعوب تلك الدول يتساءلون بدهشة: “هل هناك من لم يعترف بفلسطين بعد؟”

الفيتو الأميركي.. تعطيل العدالة

لكن واشنطن، بوجهها البارد، لا ترى هذه الاعترافات فهي تعيش في فقاعة حيث كلمة “إسرائيل” تعني الحرية، و”فلسطين” تعني الارهاب تمامًا كما أن كلمة “سلام” في قاموسها لا تُترجم إلا في حق “أمن إسرائيل” ولو أردنا الإحصاء الدقيق، فقد استخدمت أميركا حق النقض (الفيتو) أكثر من 45 مرة في مجلس الأمن لحماية إسرائيل من قرارات دولية، أي أنها عطلت بانتظام 45 محاولة أممية لفرض الحد الأدنى من العدالة بذلك، يتحول بها حق تقرير المصير الفلسطيني إلى رهينة المصالح السياسية الأميركية والإسرائيلية، لا إلى قضية عدالة أو توافق دولي.

لكن للأسف الواقع المرير يؤكد أنه: لو اجتمع العالم على الاعتراف بفلسطين، وبقيت أميركا وإسرائيل ترفضان، فلن يغيّر ذلك من الحقيقة شيئًا فالقافلة تسير، والخرائط تُرسم، أما واشنطن وتل أبيب تواصل فرض الأمر الواقع على الأرض، مع إضعاف أي إمكانية عملية لحل الدولتين الذي ترفعه واشنطن كشعار سياسي هذا الحل، الذي طُرح منذ أكثر من ثلاثة عقود، لم يعد أكثر من كمين سياسي: يُستَخدم لتجميد أي مبادرات جادة، بينما تُفرغ الأراضي الفلسطينية من مقومات الدولة عبر الجدار والمستوطنات فوفق بيانات الأمم المتحدة، تجاوز عدد المستوطنين الإسرائيليين في الضفة الغربية  700 ألف مستوطن عام 2024، وهو رقم يضع أي مشروع لدولة فلسطينية متصلة وقابلة للحياة أمام استحالة جغرافية وقانونية.

فلسطين في الوجدان العالمي

ومع ذلك، فلسطين لم تعد مجرد قضية “هوية” إنها اختبار أخلاقي لزمننا الحديث فإما أن يعترف العالم بحقيقة الحق، أو يظل يرقص حول “حل الدولتين” حتى يُستهلك الوقت، وتُستهلك أرواح الفلسطينيين، ويُستهلك الضمير العالمي حتى آخر قطرة.

لكن، ماذا بعد كل هذا الجدل؟ الجواب ببساطة: فلسطين موجودة رغمًا عن ترامب، ونتنياهو، ومجلس الأمن المشلول ففلسطين موجودة في وجدان أكثر من مليار ونصف مسلم، وفي اعتراف 157 دولة، وفي صمود أطفال غزة والقدس، حتى لو صمّت أميركا آذانها.

فلسطين: حقيقة لا تُمحى

وإذا كان التاريخ يعلّمنا شيئًا، فهو أنّ الاعتراف بالحق لا يسقط بفيتو، وأن بناء الدول لا يتوقف على موافقة القوة العظمى فكما قاومت شعوب كثيرة حتى نالت حريتها، ستظل فلسطين حقيقة سياسية وأخلاقية، مهما طال الإنكار ومهما تعددت “خطط السلام” التي تُصاغ على الورق فإن لفلسطين رب يحميها.

السفير د. أحمد سمير

عضو هيئة ملهمي ومستشاري الأمم المتحدة

السفير الأممي للشراكة المجتمعية

رئيس مؤسسة الحياة المتزنة العالمية

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى