المتحف المصري الكبير: حين تلتقي الأزمنة لتتصالح

بقلم / عدلي سامي
في الطريق إلى المتحف المصري الكبير، تشعر أنك لا تمشي نحو مبنى من الزجاج والرخام، بل نحو ذاكرةٍ تنتظرك منذ آلاف السنين.
كأن هذا الطريق لا يقود إلى مكان، بل إلى زمنٍ آخر، حيث يتكلم الحجر ويصغي الصمت.
الريح القادمة من الأهرام تمرّ بك كأنها تحرس الوصية القديمة:
“احفظوا ما كنتم عليه، لتعرفوا من أنتم اليوم”.
في بهو المتحف، يقف تمثال الملك رمسيس الثاني، شامخًا، كأنه لم يغادر معاركه بعد.
لكنك حين تنظر إليه طويلًا، تدرك أن المعركة الآن ليست بين جيشين، بل بين النسيان والذاكرة.
المتحف ليس جدارًا نعلّق عليه ماضينا، بل مرآة نرى فيها أنفسنا كما كنّا، لنفهم كيف يمكن أن نكون.
كل قطعة هنا تحمل ما هو أكثر من اسمٍ أو تاريخٍ محفور على بطاقة صغيرة؛
كل قطعة رسالةٌ من زمنٍ كان يؤمن بأن الخلود ممكن.
وفي صمت القاعة الواسعة، تشعر أن الملوك والفنانين والعمال الذين بنوا هذه الحضارة، ما زالوا يتنفسون بيننا، يحاولون أن يقولوا شيئًا لم نفهمه بعد.
ثم تأتي الرسالة الأجمل، من طفلٍ ملك عاش ومات صغيرًا، لكنه ترك خلفه ضوءًا لا ينطفئ.
كأن توت عنخ آمون يهمس لكل زائر صغير يمر أمام قناعه الذهبي قائلا :
“نحن الذين بنينا الحجارة، وأنتم الذين ستبنون المعنى.لا تصدّقوا أن التاريخ انتهى بنا، فالتاريخ يبدأ بكم من جديد.”
المتحف المصري الكبير ليس مجرد احتفاء بالماضي، بل وعدٌ للمستقبل.
إنه الدليل على أن الذاكرة حين تُصان، تتحوّل إلى طاقة.
وأن الحضارة لا تعيش في الكتب وحدها، بل في نظرة طفلٍ يرى وجه ملكٍ عمره ثلاثة آلاف عام فيبتسم له كما يبتسم لصديقه.
هنا، في هذا المكان الذي يجمع بين الحجر والضوء، بين الفرعون والطفل،
تلتقي الأزمنة لا لتتنافس، بل لتتصالح.
فالتاريخ ليس ما مضى، بل ما لا يزال حيًّا فينا..
وفي المتحف المصري الكبير، يبدو المستقبل نفسه كأنه يطل من نافذةٍ مفتوحة على الماضي،
يقول لنا بهدوءٍ يشبه النبوءة:
“من عرف أصله، لن يضيع طريقه أبدًا.”
عدلي سامي
أخصائي علاج طبيعي وكاتب




