القضية الفلسطينية: تجربة إنسانية صنعت منظومة قيم حيوية
أثر منظومة القيم في المستقبل العربي والإسلامي

بقلم أيقونة الإتزان /السفير د. أحمد سمير
على امتداد أكثر من سبعة عقود، لم تكن القضية الفلسطينية مجرد صراع سياسي أو نزاع حدودي، بل تحوّلت إلى منظومة قيم متجذّرة داخل الوعي الجمعي الفلسطيني والعربي والإسلامي هذه القيم لم تتشكّل في لحظة واحدة، بل جاءت نتيجة تراكمات من المقاومة، والصمود، والتهجير، والمعاناة، والبحث المستمر عن الحرية والعدالة>
واليوم، ومع التحولات الكبرى في المنطقة والعالم، تبدو أهمية فهم تلك القيم ملحّة لأنها تشكّل أساساً للمرحلة المقبلة.
أولاً: القيم التي نشأت داخل المجتمع الفلسطيني
1- قيمة الصمود
الصمود لم يعد شعاراً، بل ممارسة اجتماعية يومية الفلسطينيون تعلّموا كيف يحافظون على حياتهم تحت ظروف استثنائية، وكيف يطوّعون القليل لصناعة الكثير هذا الصمود أصبح جزءاً من هوية الفلسطيني، ومنحه قدرة نادرة على الاستمرار رغم الخسائر.
2- قيمة الترابط الاجتماعي
التهجير والاحتلال والحصار خلقوا حاجة دائمة للتكاتف ظهر ما يشبه “النسيج الجمعي” الذي يتجاوز الانتماءات العائلية والسياسية، ويجعل المجتمع قادراً على إعادة ترميم نفسه بعد كل جولة عنف أو تهجير.
3- قيمة الوعي السياسي المبكر
الأطفال، قبل الكبار، أصبحوا يمتلكون قدراً عالياً من الفهم السياسي فالقضية فرضت على الفلسطينيين وعياً عامّاً يتجاوز حدود الجغرافيا، فصار المواطن العادي خبيراً بالشأن الدولي والتحولات الإقليم.
4- قيمة التضحية
التجربة الفلسطينية أنتجت أجيالاً ترى الدفاع عن الأرض والهوية جزءاً من مسؤوليتها الأخلاقية هذه القيمة، رغم ثقلها الإنساني، أنتجت قدرة نادرة على احتمال الأثمان العالية في سبيل الأهداف الكبرى.
ثانياً: القيم التي نشأت بين الفلسطينيين والعرب والمسلمين
1- قيمة وحدة العاطفة والوجدان
رغم التباينات السياسية بين الحكومات والشعوب، بقيت فلسطين نقطة إجماع وجداني هذا الوجدان المشترك أسّس لما يمكن وصفه بـ”الهوية الشعورية الجامعة”، التي تُعيد العرب والمسلمين إلى نقاط مشتركة مهما ابتعدت المسارات.
2- قيمة الإحساس المشترك بالمسؤولية
القضية جعلت الشعوب تشعر بأن القدس وغزة والضفة ليست أماكن بعيدة، بل امتداد طبيعي لوعيهم وهويتهم وهذا الإحساس خلق أشكالاً جديدة من التضامن الشعبي، خصوصاً في السنوات الأخيرة.
3- قيمة إعادة تعريف مفاهيم العدالة والحرية
القضية الفلسطينية أصبحت معياراً تُقاس عليه مواقف الدول والجماعات فالشعوب باتت تربط بين انسجام الخطاب السياسي للدول وبين موقفها من فلسطين، ما أعاد تعريف القيم الكبرى كالحرية والكرامة والمقاومة.
4- قيمة تقوية الروابط الثقافية والدينية
الارتباط التاريخي والديني بفلسطين جعلها مركزاً ثقافياً وروحياً للعرب والمسلمين، لا مجرد ملف سياسي هذا الارتباط عزّز حضور قيم مثل الحماية، والنصرة، وحفظ المقدسات.
ثالثاً: أثر هذه القيم على المرحلة المقبلة
1- قيمة ازدياد تأثير الشعوب في القرار السياسي
ارتفاع حساسية الشعوب تجاه فلسطين، خاصة مع توسّع الوعي الرقمي، سيجعل الحكومات أكثر انتباهاً لردود الفعل الشعبية هذا يعني أن القرارات المتعلقة بالقضية لن تكون سهلة أو معزولة عن المزاج العام.

2- قيمة إعادة تشكيل الهوية العربية والإسلامية
القضية الفلسطينية مرشّحة لأن تعود في السنوات المقبلة كعامل موحِّد في منطقة مليئة بالتوترات والانقسامات القيم التي عزّزتها ستساعد في إعادة إنتاج خطاب وحدوي جديد، أقل أيديولوجية وأكثر إنسانية.
3- قيمة تعزيز العمل المدني والشعبي
تنامي مظاهر التضامن العالمي والعربي سيفتح المجال أمام حركات المجتمع المدني لتلعب دوراً أكبر: حملات، مقاطعة، دعم الإغاثة، تسويق الرواية الفلسطينية، وتطوير أدوات الضغط الأخلاقي والسياسي.
4- قيمة ظهور جيل عربي وفلسطيني جديد أكثر وعياً
القيم الحالية ستنتج جيلاً مختلفاً: جيل يعتمد على الأدوات الرقمية، يفهم العالم، ويحسن إدارة الرواية الإعلامية هذا الجيل قد يصبح أكثر قدرة على التأثير في الرأي العام العالمي مقارنة بالأجيال السابقة.
5- قيمة توسيع مفهوم النصر والمكاسب
الفترة القادمة لن تكون فقط صراعاً عسكرياً أو سياسياً، بل معركة سرديات وهويات وصورة عالمية القيم التي تشكلت خلال العقود الماضية تمنح الفلسطينيين والعرب أساساً قوياً للنجاح في هذه الساحة.
تجربة إنسانية
ختاما القضية الفلسطينية لم تظلّ مجرد مسألة جغرافية أو سياسية، بل أصبحت تجربة إنسانية صنعت منظومة قيم تمتد من المخيمات إلى الجامعات، ومن الجيل القديم إلى الجيل الجديد، ومن الداخل الفلسطيني إلى كل عاصمة عربية وإسلامية هذه القيم الصمود، التضحية، الوعي، والتضامن ليست فقط نتاج الماضي، بل أدوات المستقبل.
وإذا تم الحفاظ على زخمها وتوجيهه نحو العمل المنظّم، فستكون الفترة المقبلة مرحلة إعادة بناء للرواية الفلسطينية وتمكينها، ومرحلة يزداد فيها حضور الشعوب وتأثيرها في شكل العالم الذي تريد أن تعيش فيه.
السفير د. أحمد سمير
عضو هيئة ملهمي ومستشاري الأمم المتحدة
السفير الأممي للشراكة المجتمعية
رئيس مؤسسة الحياة المتزنة العالمية






