الدكتور عبد العزيز كامل يكتب:لِنَحْيا الشريعة.. بتعظيمِ الحدود.. و إيصالِ الحقوق
الذين يصرون على اختصار الشريعة واختزالها في إقامة حدود العقوبات، التي تمثل شُعبة واحدة من شُعَب الإيمان البِضع وسبعين ؛ هؤلاء جهلوا أو تجاهلوا أن (حدود الله ) لها مفهومٌ أرحب ضمن تكاليف أوْجب، تعُم المخاطبين وتشمل كلَّ المكلفين…فجميع المسلمين – وليس الحُكام فقط – عليهم مسؤوليات تجاه تلك الحدود ..فهم مأمورون بحفظها، و منهيون عن تعديها وتخطيها ..حيث اقترن ذكرها بكثير من التشريعات التي تقوم عليها العلاقات بين المؤمنين . صحيح أن الحدود تُطلَق أحيانًا ويُراد بها الزواجر أو العقوبات المترتبة على ارتكاب بعض المُحَرمات ؛ لكن معناها الأوسع – كما قال ابن رجب – أنها : ” جملةُ ما أذِن الله في فعله، سواءً عن طريق الوجوب أو الندب أو الإباحة ، واعتداؤها : هو تجاوز ذلك الى ارتكاب ما نهى الله عنه ” . لذلك نرى اقتران كثير من التشريعات بالتحذير من تجاوز حدود الله فيها..
● ففي سياق الكلام عن حُرمة المساجد ، وتحريم الرشوة وأكل أموال الناس بالباطل؛ قال الله تعالى : (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا ) (البقرة /187)
● وضمن الحديث عن واجبات إحسان العِشْرة الزوجية ومُوجِباتها في حال الاتفاق أو الفراق ، جاء التوجيه الإلهي بقوله عز وجل : (وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ) (البقرة / 230)
● وفي إطار تأكيد حقوق النساء وتحريم ظلمهن، ولو في حال فراقهن..قال سبحانه : (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا)
(البقرة/229).
● وبعدما فصَّل القرآن في أحكام الطلاق والعدة المترتبة عليه ، قال الله تعالى : (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ ۚ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) ( الطلاق/1)
● و عندما تحدث القرآن عن دعوى الظِهار، وفصَّل في أحكام الكفَّارات الواجبة على مَنْ تورط في إثمه ؛ قال سبحانه : (ذَٰلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ۚ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ ۗ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيم)ٌ (المجادلة /4)
● وبعدما فصل الذِكْر الحكيم في أحكام الميراث بإعطاء كل ذي حقٍ حقَّه ..قال الله عز وجل : ( تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ ۚ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ وَذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِين)ٌ (14- النساء) .
لكل هذا أثنى الله على من يعظِّمون شريعته بحفظهم لحدوده، فقال..( الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ ۗ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) (التوبة/112)
وشَنَّع القرآن وحذر من المحادِّين لله، وهم الذين اخترعوا لأنفسهم شرائع وحدودًا ، نأوا بها عما شرعه الله و رسوله، فكانوا هم في حدٍ ،وشريعة الله في حدٍ آخر ..( لَّا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) (المجادلة /22) كما عابَ على الأعراب عدم حفظهم لحدودَه، بما أخرجهم من عِداد عباده ، فقال : ( الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيم)ٌ (التوبة/97)
وتوَعد الله هؤلاء المحادِّين بخزي الدنيا وعذاب الآخرة فقال : ( إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ) (المجادلة/5) وقال ( إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَٰئِكَ فِي الْأَذَلِّين)َ ( المجادلة /20) وقال ( أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ۚ ذَٰلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيم)ُ (التوبة /63)
وقد قسَّم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أحكام الشريعة الى اربعة أقسام : واجباتٍ تُؤَدى، ومحارِمَ ومنهياتٍ تُجْتَنب، وحدود وزواجر يُوقف عندها ، وأمورٍ مسكوتٍ عنها ، يُترك البحثُ عما غاب منها ، فقال عليه الصلاة والسلام : ( إن الله تعالى فرض لكم فرائض فلا تُضيعوها، وحدَّ لكم حدودًا فلا تعتدوها، وحرَّم أشياء فلا تنتهكوها ، وسكت عن أشياء من غير نسيانٍ ،فلا تبحثوا عنها ) رواه الدارقطني( 4350) ورواه غيره، وإسناده حسن .
.. معلومٌ أن حفظ الحدود بالمعنى العام لا يغني عن إقامتها بمعناها الخاص، ولكنَّ تخلِّي أصحاب المسؤولية العامة عن مسؤولياتهم الخاصة تجاه شرع الله ..لايسوغ تساهل وتشاغل عموم المسلمين عن إقامة مايستطيعون من حدود الشريعة وتكاليف الدين.