الصراط المستقيم

مراقي العبودية

تأملات في سورة البقرة

كتب:سعد فياض.

 

ورد في فضل سورة البقرة عدة أحاديث ترسم معالم السورة .
والمنهج الصحيح في التلقي والانتفاع بها ينطلق من فهمها ، فمن الأحاديث الواردة في فضلها

*حديث النواس بن سمعان في صحيح مسلم قال: سمعت رسول الله يقول: «يُؤْتَى بِالْقُرْآنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَهْلِهِ الَّذِينَ كَانُوا يَعْمَلُونَ بِهِ تَقْدُمُهُ سُورَةُ الْبَقَرَةِ وَآلُ عِمْرَانَ». وَضَرَبَ لَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ — ثَلاَثَةَ أَمْثَالٍ مَا نَسِيتُهُنَّ بَعْدُ قَالَ «كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ أَوْ ظُلَّتَانِ سَوْدَأوَانِ بَيْنَهُمَا شَرْقٌ أَوْ كَأَنَّهُمَا حِزْقَانِ مِنْ طَيْرٍ صَوَافَّ تُحَاجَّانِ عَنْ صَاحِبِهِمَا»

  • حديث أَبي مسعود الاَنصارِيِ قال: قال النبِي : «الآيتان من آخرِ سورة البقرة من قرأَ بهِما في ليلة كفتاه

*حديث أبي هريرة أن رسول الله قال : « لا تجعلوا بيوتكم قبورا فإن البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة لا يدخله الشيطان »

*حديث سهل بن سعد أن رسول الله قال : « إنَ لكل شيء سناما، و إن سنام القرآن البقرة، و إن من قرأها في بيته ليلة لم يدخله الشيطان ثلاث ليال ».

فسورة البقرة. وجّاء للبيت المسلم من الشيطان ووجّاء لحاملها من حر ّيوم القيامة ، وفيها اسم الله الأعظم الذي إذا دُعي به أجاب ، وفيها آية الكرسي أعظم آية في كتاب الله .

والسورة تتميز بفضح بني إسرائيل الذين حُمّلوا التوراة فلم يحملوها، وذكر الاستخلاف في الأرض وهدف الشيطان من الانحراف ببني آدم عن القيام به وكون الخلل وارد في أصل البشر ويجبره التوبة ، مع عرض للشرائع المميزة لحقيقة الاستخلاف والتي فضلت بها أمة محمد على بقية الأمم خاصة بني إسرائيل ، ومحورية الإيمان في إقامة الشرائع.

فلعل هذا سبب ذكر تحدي المشركين ومن خلفهم الجن والإنس أن يأتوا بسورة من مثل سُوَر القرآن فيها . وكانت من السبع المثاني الذين فضلت بهم الأمة على باقي الأمم.

وهذا كله يرسم خطوط التدبر والانتفاع والتلقي عند قراءة سورة البقرة.

مراقي العبودية

٢-١ الربع الأول من سورة البقرة

ترتبط قضية الاستخلاف في الأرض – والتي تمثل محور سورة البقرة – من نزول كتاب الله ووحيه الذي {لا ريب فيه}
ونزول الوحي له مقصد هو هداية البشر ، ولكن الهداية نوعين: إرشاد ، وتوفيق .
والعبرة في الفلاح بهداية التوفيق أما قيام الحجة على العالمين فبهداية الإرشاد

ونزول هذا الكتاب. قسم العالم وغير وجه البسيطة ومجرى التاريخ ، حيث انقسم الناس إلى مؤمن وكافر ومنافق

وهذا الانقسام في الإيمان بكتاب الله سيظهر أثره في قضية الاستخلاف في الأرض في بقية السورة

أما القسم الأول فصفاتهم { هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}

وهنا تتجلى عدة حقائق في مفهوم الإيمان وتمييز أهله ، منها:

  • ارتباط الهدى بالتقوى، والتقوى حالة إيمانية قائمة على تعظيم الله وأمره ومعرفة ضعف المرء وعيبه ، فيسير في الدنيا وحاله اتقاء ما يُغضب الله ومحاسبة النفس على تقصيرها وهذا أعظم باب للهداية لأنه مظنة توفيق الله

*قيمة الإيمان بالغيب في تحقيق التقوى وتحصيل الهداية ، ومفاتيح الغيب خمسة في قوله تعالى { إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير }، والإيمان بها يورث في القلب الاستعداد للآخرة وطلب الرزق بمرضاة الله وتفويض الأمر لله ومراقبة الله وكلها معالم رئيسية في تحصيل التقوى

*إقامة الصلاة وهي صلة العبد الدائمة بمولاه ، وتفاوت الناس في الفضل والتقوى على مقدار تفاوتهم في الصلاة

*الانفاق في سبيل الله ، ويشمل الزكاة والصدقات وغيرها ،ويوضح أهمية ذلك في تحصيل التقوى قوله تعالى { لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم}

  • الإيمان بما أنزل على رسول الله وما أنزل على من قبله واليقين في الآخرة، وهذا التفصيل له أهميته في رسم معالم التقوى حيث تصحح قضية التصور وقضية الانتماء وقضية الغاية والهدف، فكل إنسان في الدنيا يحتاج أن يرسم تصور كامل عن الحياة وأن يشعر بانتماء لمن يشترك معهم في الاهتمامات والغايات ، ويحتاج لغاية يعيش من أجل تحقيقها ويبذل جهده وماله في سبيلها

فالتصور لكل أسئلة الحياة ونواحيه يضبطه الإيمان بكل ما أنزل على رسول الله ، و انتماؤهم ليس لعصبية ولكنه لقوافل الهدى والإيمان التي يحمل رايتها الأبرياء في كل عصر وأتباعهم ، وغايتهم في الدنيا يحددها اليقين في الآخرة والعمل لها

وهؤلاء هم المفلحون في الدنيا والاخرة فتجدهم في آخر أعمارهم موفقين لحسن الخاتمة وجميل الذكر والأثر الطيب وهو عاجل بشراتهم ثم في الآخرة يكون الفوز والسرور برضا الله وجنته

وهؤلاء هم المهتدون بكتاب الله وأولى الناس بإقامة دين الله في الأرض

تبدأ سورة البقرة بنزول الوحي وافتراق الناس عليه بين مؤمن به وكافر ومنافق يصم قلبه عن قبول الحق
وذكر سبحانه صفات المؤمنين إجمالا ثم صفات الكفار ثم صفات المنافقين
ثم السورة تعرض قضايا الإيمان والعبودية وانعكاس هذه الصفات على مواقف كل طائفة من هذه القضايا كما سيظهر إن شاء الله
والصفة المميز للكافرين أنهم لا يستجيبون للإنذار بالوحي

يقول تعالى { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ ۖ وَعَلَىٰ أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ ۖ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7) }

وهنا وقفات:
الأولى: حقيقة الدعوة الإنذار،وهو الإعلام بمخوف،أي بما ينبغي الخوف منه،لذلك شبه النبي صلى الله عليه وسلم نفسه بالنذير العريان وهو النذير المشفق على قومه، وهنا فائدة في خلل المناهج الدعوية التي تتعايش مع المنكرات ولا تُنكرها بدعوى عدم التنفير، فإن حقيقة الدعوة أنها تخاطب الفطرة لتستنقذها من وحل الشهوات فلا تستقيم بالتعايش معها

الثانية: حقيقة الكفر وهو الستر والتغطية على الفطرة لذلك وصف الرسول صلى الله عليه وسلم الانحراف العقدي أنه تشويهٌ للفطرة كالرعاية الذين يشوهون العير خوف الحسد، ولذلك تجد خطاب الكفر محاد للفطرة ومنزعج منها كالانزعاج من حياء المرأة وتعلق النفس كما يقولون بقوة علوية وغير ذلك من العداء والطمس المقصود لنداءات الفطرة، والقيمة الخلقية المحورية في هذا الكبر

الثالثة: قيام الحجة عليهم بما وهب الله البشر من أدوات لتحصيل الهدى وهي ثلاثة السمع الذي يسترعي الانتباه ، والإبصار الذي يقف على الحقائق ، والفؤاد الذي يتقبل الحق ويميزه ويبني تصوراته عليه

الرابعة: سنة الله في الجزاء من جنس العمل ، كما في قوله تعالى : ( فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم ) وقوله ( ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون ) وما أشبه ذلك من الآيات الدالة على أنه تعالى إنما ختم على قلوبهم وحال بينهم وبين الهدى جزاء وفاقا على تماديهم في الباطل وتركهم الحق ، وضد ذلك قوله تعالى {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ } وهكذا جزاء السعي في طلب الحق التوفيق له والسعي للغو فيه مزيد انصرافٍ عنه والله أعلم .
يقول ابن القيم رحمه الله : الختم والطبع يشتركان فيما ذكر، ويفترقانذ في معنى آخر، وهو أن الطبع ختم بصير سجيّة وطبيعة، فهو تأثير لازم لا يفارق.

والختم قد يكون درجات والله أعلم كما جاء في الحديث “تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودا عودا ، فأي قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء ، وأي قلب أنكرها نكتت له نكتة بيضاء”

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.