يكثر الحديث عن بناء الإنسان في أماكن مختلفة من العالم العربي، وترتفع الشعارات أن الأولوية لبناء الإنسان، لكن دعونا ننظر للواقع لنرى، هل فعلاً يتم بناء الإنسان، أم العكس.
عندما قدم الدكتور كلير جريفز Clare W. Graves (١٩١٤-١٩٨٦)، أستاذ علم النفس، بجامعة يونيون، نيويورك، نظريته الشهيرة عن نمو البالغين في النظم الحيوية الاجتماعية التي يعيشون فيها، ذكر أن بناء أو نمو الإنسان، لا يتم إلا عندما يقوم بحل مشاكل البيئة التي يعيش فيها، وأن هذا الحل سيطور من إدراكه، ويرتقي به إلى مستويات تفكير أعلى، وعندها فقط يصبح عنده القدرة على رؤية المشاكل الجديدة، التي نتجت من الحلول السابقة، فيواجه تحدي جديد، وهكذا يستمر التفاعل بين الإنسان الذي يخترع وسائل وجود ليحل بها مسائل الوجود، هذا التفاعل هو السبب الرئيس في نموه الذي لا يقف عند حد، ولا تقف تحديات البيئة الخارجية أيضاً عند حد، فليست هناك محطة نهائية لهذه الرحلة التي لن تقف إلا عند قيام الساعة.
السؤال الآن هو: أين الإنسان العربي أو المجتمعات العربية، وخصوصاً الغنية فيها من هذه الرحلة؟
يقول الواقع أن الإنسان العربي مستهلِك لوسائل ومنتجات المجتمعات التي نمت وتقدمت بالإنسان الذي يعيش فيها، بينما توقف الإنسان العربي أو العقل العربي عن إيجاد حلول للتحديات التي يعيشها، واكتفت الدول بشراء ما تظن أنه يضعها في مصاف أو مستوى المجتمعات التي نما فيها الإنسان وما زال ينموا، طالما استمر في البحث عن مشكلات الحياة التي لا تنتهي.
بل أستطيع القول، بكل أسى، أن قرار شراء هذه المنتجات أو الوسائل هو في نفس الوقت، قرار باغتيال العقول في هذه المجتمعات.
لقد خدعتنا قشرة الحضارة، عن الحضارة نفسها، فغاب وعينا عن العصر الذي نعيش فيه، وصار امتلاك أحدث منتجات التكنولوجيا أو العمارة أو غيرها، مدعاة للفخر، والوهم بأننا نعيش العصر، والحقيقة أننا خرجنا من التاريخ والجغرافيا معاً.
لا بديل عن مواجهة التحديات الحقيقية، وأولها حرية الإنسان فهي التربة الخصبة الحقيقية لنمو الإنسان وإبداع العقول وإعادة المجتمع لخارطة العالم.
حرية الإنسان بدءاً، بالأسرة وانتهاءً بالحكم.
انتهى زمن الأسرة المغلقة والدولة المغلقة، فقد حولت وسائل التواصل الاجتماعي والإنترنت العالم لقرية صغيرة، وجعلت المعرفة العالمية متاحة للباحثين وغيرهم بضغطة إصبع واحدة، وصارت حدود الدول الجغرافية وهماً أما الثقافات عابرة القارات، ولم تصبح القضية هي الحصول على المعرفة بل صناعتها، وتحويلها إلى أدوات ووسائل لحل مشكلات الحياة التي لا تنتهي.
من العبث تصور أننا ندخل عصر الفضاء بشراء قمر صناعي، فنحن لا نملك إنسان المعرفة أصلاً الذي يدير المنظومة كلها، لكنها القشرة أو الشكل الخادع أو الوهم الذي نرضى به، حتى لا ندفع ثمن اللحاق بالعالم، وإخراج أوطاننا من غرف الإنعاش، لتدب فيها الحياة.