

يعيش الإنسان عالمان، العالم الداخلي له، والعالم الخارجي المادي وغير المادي، ويدرك الإنسان هذا العالم الخارجي المادي من خلال حواس إدراكه الخمسة، هذه بدهية معروفة، ليس هدفي الوقوف عندها، بل أريد أن أجيب على سؤال هام هو: كيف يدرك الإنسان هذا العالم الخارجي؟، وكيف يسجله في عقله؟، وكيف يعبر عنه للآخرين؟
إذا اعتبرنا أن العالم الخارجي حقيقة نستطيع إدراكها، فإننا لا نستطيع تسجيلها بالكامل في عقولنا، وما نسجله في عقولنا لا نستطيع نقله كاملاً لغيرنا،. ولذلك نستطيع أن نقول ببساطة أن الحقيقة لها ثلاث مستويات للوجود.
المستوى الأول: وهو الحقيقة ذاتها في الواقع أو العالم الخارجي، مثل أي شيء أمامي أو أمامك الآن.
المستوى الثاني: وهو ما أدركه من الحقيقة بوسائل إدراكي المحدودة وبعد حدوث حذف وتعميم وتشويه عليها، فتتكون عندي خارطة ذهنية عن الحقيقة، وهذا هو التركيب العميق بداخلي عن الحقيقة.
المستوى الثالث: وهو عندما أعبر عن الحقيقة، فيخرج التركيب الذهني لها، بعد حدوث عمليات حذف وتعميم وتشويه مرة أخرى، وهذا يسمى التركيب السطحي لأنه ظهر للآخرين، مثل الجزء الصغير الذي يظهر من جبل الجليد.
محدودية الحواس وعمليات الحذف والتعميم والتشويه تختلف من شخص لآخر ولذلك نجد أن الحقيقة الواحدة، يكون لها تمثيلات عديده ومختلفة في أذهان الناس، وكل تمثيل لها هو جزء منها وليس الحقيقة كاملة.
لذلك كانت الشورى هي الوسيلة الإنسانية، والفريضة الربانية، للوصول إلى أقرب تصور بشري عن الحقيقة، وكانت الفرعونية أو الديكتاتورية هي أبغض الوسائل لها، لأنها تفرض تصور شخص واحد ناقص عن الحقيقة، على ملايين العقول الأخرى، هي ببساطة تأميم للعقول وتشويه للحقيقة معاً.
إدراك كل واحد منا أنه لا يملك الحقيقة الكاملة، وأنه في حاجه للناس، كما أنهم في حاجه له، لضم الأجزاء المختلفة عن الحقيقة معاً، ليكون الإدراك الجمعي الحر أقرب إليها، وبالتالي تتسع مدارك الفرد كلما أضاف إليها الآخرون أبعاد جديدة لم يستطع هو إدراكها.
قناعة الإنسان بذلك، تجعل الآخر مكملاً له، وهو مكمل للآخر، وإن اختلفا، بل لولا هذا الاختلاف ما عرفت الحقيقة بصورة أفضل، فبضدها تعرف الأشياء.
تنشأ مشاكل التواصل الإنساني عندما يعتقد الإنسان أن الصورة الذهنية التي يحملها عن الحقيقة هي الحقيقة، وبالتالي يصادر كل الصور الذهنية الأخرى المخالفة له.
ستظل رحلة الإنسان في البحث عن الحقائق مستمرة، لأن ما يدركه هو تصور ذهني عنها غير كامل.

aminghaleb@gmail.com