عقلية النَصْ وأَزْمِة التعليم: تأملات بقلم د. أمين رمضان
قضيت أكثر من نصف قرن في عالم التعليم أكثرها كان في التعليم الجامعي، طالباً ومعيداً وباحثاً ومعلماً، وعايشت طلاباً من ثقافات مختلفة. تأملت واقعنا وما ينطق به من حقائق تؤدي إلى صدمة حقيقية، فتخلفنا واضح للعيان في كل مجالات الحياة تقريباً، ولا ينكر ذلك إلا مكابر، فالتعليم في وادٍ وحياتنا في وادٍ آخر، فنحن نعيش عالة على غيرنا في كل مجالات الحياة بدون استثناء، حتى في القيم الإنسانية الفطرية.
هذا هو الواقع بلا رتوش، وبلا جلد للذات، والذين يتهمون كل من يحاول الإصلاح بجلد الذات، إما أناس مستفيدين من هذا التخلف، أو لا يريدون أن يدفعوا ثمن الخروج منه، مع أنه ممكن وأقل بكثير من الثمن الباهظ الذي ندفعه الآن، وسيكون أفدح في المستقبل إذا استمر الوضع كذلك. عندما تتعامل مع أفضل خريجين المرحلة الثانوية وجهاً لوجه، فيصدمك أن أغلبهم لا يفكرون، بل لا يعرفون كلمة تفكير. وعندما تجد أن أوائل الثانوية العامة لم يتفوقوا في مجتمع مدرسي زودهم بالعلم والمعرفة والمهارات والقدرات، بل نتيجة للدروس الخصوصية التي لا تربيهم ولا تهتم بالتعلم بقدر ما تهتم بالحصول على الدرجات فقط؛ فتكون الصدمة أكبر.
السؤال هو: أين المشكلة؟ تعتمد مؤسسات التعليم الصحية على بناء العقل المبدع والشخصية ذاتية التعلم التي تمتلك الثقة في نفسها، فهل مؤسسات التعليم عندنا صحية أم مريضة؟ وهل الطلاب مذنبون أم ضحايا؟ وما هو طريق الإصلاح الحقيقي؟؛ هذه الأسئلة وغيرها الكثير تحتاج مواجهة حقيقية، ولن يتم ذلك إلا عندما يكون هناك قرار سياسي بإصلاح التعليم، وهذا ليس موضوعي الآن، بل موضوعي هو عقل المتعلم والمعلم.
أستطيع أن أقول أن العقل الجمعي للأمة هو الذي أنتج العقل الجمعي للتعليم عامة، وخَرَّج طلاباً يحملون نفس العقل، الذي تربي على الحفظ، ولم يتربى على التفكير أو النقد، يمكن أن نقول باختصار المشكلة هي عقلية النَصْ عند المعلم والمتعلم سوآءا بسواء، وهل يجرؤ معلم على الخروج عن النص، أو هل يجرؤ طالب على الإجابة خارج النص المحفوظ، دعوني أوضح ذلك. حين يغيب العقل النقدي عن المجتمع ككل، ويصبح السؤال بكلمة “لماذا؟ أو حتى كيف؟” من المحرمات خلال مراحل العمر كلها، في الأسرة والعمل والمجتمع، وتتم التربية بالخضوع للسلطة إما بالحب أو بالقوة، فيتم بناء عقول لا تعرف أن تخطوا خطوة وحدها، ولا تجرؤ على التفكير خارج سجن العقول، سواء في المدارس أو المعاهد أو حتى الجامعات، بل يمتد أحياناً هذا السجن لتكون أسواره هي حدود الوطن.
النتيجة المؤلمة لفساد منظومة التعليم هي صناعة أشباه طلاب، لا يعرفون الإبداع ولا يثقون في أنفسهم، غايتهم العلامات التي تؤهلهم للشهادة، ولا تؤهلهم للمعرفة أو الإنسانية، وليت الأمر يقف عند هذا الحد، بل يستحلون كل الوسائل الممكنة حتى ولو كانت غير شريفة ليحصلوا على علامات لا يستحقونها، وهذه أزمة أخلاقية أخرى، لم تنشأ من فراغ، بل نمت وترعرعت وتغذت من ماء الفساد، وتربة الاستبداد، وهواء الديكتاتورية، فأكلت الحشائش الضارة، بدلا من أن تأكل الغذاء الصحي، وتنفست الهواء السام بدلاً من أن تتنفس الأكسجين النقي، فأعطت ثمارها المرة، أشباه خريجين، ضررهم على المجتمع أكثر من نفعهم، وعاش المجتمع في بكائية، اتهم الجميع فيها الجميع، بمبدأ “كلكم يبكي فمن سرق الحذاء”، ولم يجد المجتمع أبناءه الذين أَمِل َفيهم خيراً، يديرون عجلة حياته، ويملؤون شرايينه بالقوة والحيوية، فهم لا يمتلكون القدرة، لأن من أفسدهم سد شرايين المجتمع أمام أي دماء جديدة، فعاش الجميع في مجتمع ميت، يحتفل بأموات، ويضعون على وجوههم مساحيق العصر، فتحسبهم أيقاظاً وهم رُقود، عقول خاوية وكروش ممتلئة.