احدث الاخبار

الغلاء… حين يضغط على الأخلاق

بقلم: د. نجوى الأمير

في زمنٍ تتبدّل فيه الأسعار كما تتبدّل الفصول، لكن من دون أن تبشّر بربيع قادم، أصبح الغلاء أشبه برياح ساخنة تهبّ على النفوس قبل الجيوب. لم تعد الأزمة الاقتصادية مجرد خلفية باهتة للمشهد العام، بل تحوّلت إلى بطل رئيسي في حكاياتنا اليومية المصرية، تؤثّر في لغة الناس، في ردود أفعالهم، وحتى في قدرتهم على التحمل.

نحن لا نتعامل مع غلاء فقط… نحن نتعامل مع أثر الغلاء على الإنسان والشارع المصري .

ضغط متراكم… وانفجار محتمل
حين تتراكم الضغوط يوماً بعد يوم، يصبح الانفجار مسألة وقت.
الموظف الذي يبدأ صباحه براتب لا يكفي نصف الشهر، والزوجة التي تتحمّل مسئولية بيت دون أن تجد لحظة هدنة، والشاب الذي يخرج من بيته وهو غير واثق من قدرته على دفع أجرة طريق العودة… كل هؤلاء يتشاركون شعوراً واحداً: التآكل من الداخل.

تعبّر سيدة ما، مدرسة لغة عربية في مدرسة حكومية، عن هذا بقولها:
“بقينا نمشي في الشارع وكأننا في معركة، مش عشان بنكره بعض، لأ، بس كلنا مضغوطين وكلنا خايفين.”

هل تغيّرت طباع الناس؟
من السهل أن نقول إن الأخلاق تراجعت، أو أن الناس لم تعد كما كانت.
لكن الأدق من ذلك أن نُدرك أن الإنسان حين يشعر بالخطر—ولو كان اقتصادياً—يُصبح أقل صبراً، وأكثر حدة. وهو ما يفسّر التحولات اليومية التي نراها:

الموظف الذي كان يعامل زملاءه بلطف، أصبح منفعلاً.

الجار الذي كان يُلقي السلام صباحاً، بات يمرّ وكأن لا أحد هناك.

الأم التي كانت تروي حكاية لطفلها قبل النوم، لم تعد تملك طاقة سوى للسكوت.

مساحات الأخلاق تتقلّص تحت الضغط
الغريب أن الأخلاق لا تختفي تماماً، لكنها تتراجع. كأن هناك شيئاً بداخلنا يقول: “هذا ليس وقته”.
وهنا الخطر الحقيقي. لأن الأخلاق، بعكس ما يُشاع، لا تُمارَس في أوقات اليسر، بل تُختبر في أوقات الشدة.
فالكرم حين تملك فائضاً من المال أمر متوقّع، لكن الكرم وأنت في عوز… هذه بطولة.
والتسامح حين تكون مرتاح البال سلوك طبيعي، لكن التسامح وأنت تحت القهر… هذه إنسانية حقيقية تستحق لقب الإنجاز.

ورغم كل شيء… ما زلنا نحاول
وسط كل هذا، لا تزال هناك لمحات مقاومة، تحاول أن تُبقي الأمل حيّاً.
شاب يُعطي رجل مسن مكانه في الميكروباص، بائعة خضار تُعيد لطفل فقير جزءاً من ثمن المشتريات وتقول “خلي الباقي”، شابان يساعدان امرأة في حمل أكياسها دون مقابل…
تلك اللحظات العابرة لا تملأ الصحف، لكنها تمثل جمر الأخلاق الذي لا ينطفئ.

الخوف من التحوّل الكامل
ما يخيف حقاً، هو أن نعتاد هذا الوضع. أن نُطبّع مع القسوة، ونتعايش مع الجفاء، ونقبل أن تغيب الأخلاق باعتبارها “ترفاً مؤجلاً”.
هنا تكمن الخطورة الحقيقية لأن المجتمعات لا تنهار فقط حين تفشل اقتصادياً، بل تنهار حين تفقد بوصلتها الأخلاقية، وحين يصبح البقاء هو الغاية الوحيدة، بصرف النظر عن الوسيلة.

خاتمة… ولعلها بداية وعي
علينا أن نُدرك أن الغلاء قد يكون واقعاً لا يمكننا تغييره بسهولة، لكن طريقة تفاعلنا معه، هي ما يصنع الفارق.
أن نحافظ على قدر من الرحمة، والاحترام، والصبر، رغم الظروف، هو التحدّي الأكبر.

فلتكن هذه الأزمة، بدلاً من أن تسرق منا قيمنا، فرصة لاختبار ثباتها.

“الأخلاق لا تُقاس وقت الرخاء، بل تُختبر وقت العُسر.”

في زمن يُختبر فيه كل شيء، أكتب لأتمسك بما لا يجب أن يُنسى… القيم، الرحمة، وأصل الحكاية.
— نجوى الأمير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى