الفن والثقافة

أرستوفان والكوميديا

 

بقلم / حاتم السروي

بدايةً أوضح أنني أتحدث في هذه المقالة عن التمثيل وليس عن التشخيص، حيث أن كثيرًا مما نراه اليوم لا يعد تمثيلاً من حيث أنه لا يقوم على أسس فنية سليمة، بل هو أمر يستطيع فعله أي أحد ولا يصمد أمام النقد المنهجي، ويضاف إلى هذه الحقيقة الناصعة أننا نرى ونسمع كمًا مرعبًا من السخافات والألفاظ الوقحة والمشاهد الخارجة.

لكل ما سبق أقول أنني أتكلم عن التمثيل، والذي هو فن راقي عرفته البشرية منذ ما قبل ميلاد المسيح، فقد كان موجودًا عند الإغريق، بل وعرفه المصريون القدماء؛ حيث كانوا يمثلون أسطورة “الإله أوزوريس” وصراعه مع أخيه “ست” وعندما نذكر التمثيل المسرحي عند اليونان فلا يغيب عنا “سوفوكليس” زعيم التراجيديا، ونظيره “أرستوفان” رائد الكوميديا.

وكان الأدب اليوناني لا يعرف إلا التراجيديا ويهتم بها ويجعلها في الصدارة، وإن كانت قد ظهرت بين الحين والآخر تمثيليات كوميدية لم تلقَ اهتمامًا يذكر من النقاد؛ إذ كان هدفها الوحيد هو التسلية واللهو وإضفاء جو من المرح والبهجة، على أن الكوميديا فيما بعد استقلت بنفسها وفي أثناء الاحتفال بأعياد الإله “ديونيسوس” إله الخمر تم تخصيص يوم كامل للمسرحيات الكوميدية، وأخذ الكتاب يتنافسون فيما بينهم، وكانت رواياتهم تعرض الواحدة بعد الأخرى، وكان هذا في سفح جبل “الأكروبوليس” حيث المسرح الخاص بالإله “ديونيسوس” والذي لا تزال آثاره قائمة حتى اليوم، ومن ترتقى مسرحيته لتحوز لقب أفضل ملهاة كان يُمنَح جائزة كبيرة، وبهذا راج سوق الكوميديا وشرع المؤلفون في كتابتها، وكانت القفزة الكبرى على يد أرستوفان الذي غير مسار الكوميديا حيث جعلها أفضل وأكسبها كثيرًا من (الحرفية القديمة) التي لا يزال طلاب التمثيل يدرسونها حتى اليوم في معاهدهم.

والكوميديا على ذلك لم تعرفها أثينا في بادئ الأمر، وإنما هي وافدة من جزيرة “صقلية” الواقعة في جنوب إيطاليا، والتي عُرِفَت أيضًا بفن الخطابة، ومن المؤكد أن ازدهار الديمقراطية أوائل القرن الخامس قبل الميلاد ومناخ الحرية السائد وقتها ساعد على ازدهار فن الكوميديا حتى لقد أصبح في أثينا هو الشكل المألوف للسخرية من السياسة والسياسيين، وفي عيد إله الخمر المذكور كانت تقاليد الاحتفال تسمح بحرية لا مزيد عليها، وكان من شاء يقول ما شاء، وبهذا عرف اليونان التهكم من السياسة بل والأخلاق، وأوغلت المسرحيات في السخرية حتى صدر قانون يقضي بالعقوبة على جريمة السب والقذف، وكان هذا على وجه التحدية سنة 440 قبل الميلاد، والمضحك أن هذا القانون تم إلغاؤه بعد ثلاثة أعوامٍ فقط أي سنة 437 ق.م فالمعروف أن التقويم التاريخي قبل ميلاد المسيح كان يتجه إلى التناقص، بعكس التقويم الحالي الذي يتجه إلى التزايد.

وحتى لا نخرج عن سياق الموضوع نقول أن النقد عاد سيرته الأولى، وأصبح المؤلفون ينتقدون كل ما عنَّ لهم، وصار المسرح الكوميدي عند اليونان شبيهًا بالصحافة عندنا الآن، ويمكنك أن تقول أنه يشبه الصحافة المعارضة، غير أن المسرح آنئذٍ لم يطرح القضايا الاجتماعية، ولم يعرف نقد السلوك والعادات ومحاولة الإصلاح الاجتماعي إلا بعد سقوط أثينا تحت وقع ضربات الإسكندر الأكبر وتوحيده لليونان إثناء حكم أبيه “فيليب”.

وفي فن الكوميديا الساخرة عند اليونان يبرز اسم “أرستوفان” والذي لا نعرف عن حياته الكثير، وتاريخ ميلاده غير محدد فهو إما سنة 450 قبل الميلاد أو 444 بل إننا على غير يقين إن كان من أثينا أو هو أجنبيٌ عنها وفد إليها، وما نعرفه أن بركليس العظيم كان يحكم أثينا وخلفه في حكمها رجل يدعى “كليون” كان لا يحب أرستوفان وسخريته اللاذعة، ولذلك حاول أن يثبت عدم أثينية أرستوفان إن صح التعبير بمعنى أنه قدم من المستندات ما يفيد بأن أرستوفان ليس من أثينا، وذلك حتى يتم حرمانه من حقوق المواطنة الأثينية، ولكنه فشل في إثبات هذا الأمر، وربما دلنا هذا على انتماء هذا الكاتب الساخر لأثينا.

وعلى أية حال فإن أرستوفان معروف بحبه للسلام ودعوته لتغليب السلم على الصراع وإشعال نيران الحروب، كما عُرِف عنه شعاره الذي رفعه دائمًا “محلاها عيشة الفلاح” ولا نعجب فقد كان هذا هو الحاصل، إذ جعل أرستوفان يمجد حياة الريف طوال عمره وكان يكره حياة المدينة في المقابل، وهذا ما حدا ببعض المؤرخين إلى القول بأنه وفد من بلدة “أتيكا” بعد غزو الإسبرطيين لها، وما يهمنا الآن ليس جنسيته فقد كان يونانيًا على كل حال، ولكن المهم أنه خلف لنا 40 مسرحية وقيل 42 وهي من عيون الفن التمثيلي على مستوى العالم، وللأسف لم يبق منها سوى 11 فقط !.

وما يميز مسرحيات أرستوفان كما يرى دارسوها أنها متحررة من القيود الأدبية التي تم فرضها على التراجيديا، مع الحرية الملموسة في اختيار الأسلوب والمنهج والموضوعات، وهذه الحرية تجعلها أقرب من التراجيديا الإغريقية إلى الأدب الحديث، وهي مسرحيات كوميدية راقية كان يشاهدها جمهور مثقف على صلة أكيدة بالفلسفة والعلوم، ويمكن القول بأن أثينا بوجهٍ عام بلغت من الحضارة مبلغًا يسر لأهلها تذوق هذه المسرحيات رفيعة المستوى عند أدائها على المسرح.

ومسرحيات أرستوفان كما أسلفنا لم تكن تعنى بالحياة العادية لعموم الناس ولم تتطرق إلى المواضيع الاجتماعية ولم تناقش السلوكيات، بل كانت جريًا على دأب “كراتينوس” وهو مؤلف عاصره أرستوفان وتنافس معه وكان يهاجم “بركليس” حاكم أثينا، وعلى دربه سار كٌ من: أرستوفان و”إيبوليس” وقد عقدا بينهما حلفًا أدبيًا في البداية وكونا ثنائيًا رائعًا في الكوميديا ثم انفصلا وسخر كل واحد من الآخر سخرية شديدة ولم يوحد بينهما سوى مهاجمة الديمقراطية!.

و تمتاز الكوميديا السياسية لأرستوفان بوجود “الكورس” و”المونولوج” والذي هو خطاب يوجهه قائد الكورس أو رئيس الجوقة مباشرةً إلى الجمهور بعد انتهاء الأحداث في المسرحية، والمونولوج ليس إلا خطبة تعبر عن رأي الكاتب المسرحي ويتم نظمها بشكلٍ خاص يميزها عن غيرها، وفي ثناياها نجد آراء المؤلف المسرحي في القضايا الجارية وبعض النصائح.

وهذا النوع من التمثيل نجد ملامحه عند بعض الفنانين في وقتنا الحالي وهذا يدل على استنادهم إلى تقنيات تمثيلية قديمة أو فلنقل عتيقة! لأن الفن المسرحي فيما بعد تخلص من الكورس ومن المونولوج وبالأخص على يد “ميناندر” وهو كاتب مسرحي مثل أرستوفان لكن أعماله تصنف ضمن الكوميديا الاجتماعية، وقد سار على نهجه في روما المؤلف “بلاوتوس” وكما هو معروف وليس بحاجة للتذكر فإن أرستوفان رائد المونولوج لا تعد مسرحياته نهاية المطاف؛ إذ جرى تحديث فن الكوميديا والمسرح.

وعلى حين ذهب الفيلسوف الشهير “أفلاطون” بعد وفاة أرستوفان إلى مدحه والثناء عليه رغم أنه كان قد هاجم أستاذه “سقراط” بعنف وشدة في مسرحية “السحب” لكن المدهش أن سقراط نفسه حضر العرض ولم يغضب من النقد والتهكم، بل وخرج أرستوفان وسقراط بعد المسرحية صديقين! مع أن “السحب” ساهمت في تلويث سمعة سقراط عند الناس وربما كانت أحد الأسباب التي قدمته للمحاكمة ثم إعدامه بعدها.

نقول على حين ذهب أفلاطون وغيره إلى مديح أرستوفان وتراثه المسرحي واصفين إياه بالجمال والحكمة؛ كان الرأي الآخر لبعض النقاد أن مسرحيات أرستوفان سخيفة من حيث العقدة الفنية أو الحبكة الدرامية فقد تنحل الأزمة عند منتصف المسرحية وتبقى المشاهد الباقية مجرد حشو أو بلغتنا الدارجة “مط” وقال النقاد بأن كوميدياه تعتمد على الإيماءات الجنسية والطعام ومخارج الفضلات، وهي بهذا مسرحيات منحطة لاعتمادها على المحسوس، بل إنه في “السحب” يخلط بين أقذر الفضلات وأسمى ما توصلت إليه الفلسفة، ويصف “كراتينوس” الذي كان أسبق منه في المسرح السياسي الساخر وكان أرستوفان قد عاصره بأنه ضعيف جنسيًا! بل إن الآلهة لم تسلم من سخرية أرستوفان، وكان الشعب اليوناني في أثينا “ابن نكتة” يحب الفكاهة في ذاتها ويفهم النكتة بشكلٍ سريع ويحب رواد الكوميديا، لهذا كله تركوا أرستوفان ولم يمسوه بسوء، وقيل إن من لم يقرأ لأرستوفان لم يعرف الأثينيين حق المعرفة، وربما أعطينا العذر لأرستوفان في بعض سقطاته لأنه كان يستلفت نظر الجمهور بالعبارات المثيرة والنكات الخارجة حتى يصل بهم إلى ما يريده من الحكمة وهذا لا شك خطأ منه، غير أن ما نشاهده اليوم يدفع بنا إلى احترامه لأنه قدم للإنسانية فنًا خالدًا ولم يقدم تشخيصًا مملاً.

حاتم السروي كاتب وقاص ومسئول خدمة المؤلف بالهيئة المصرية العامة للكتاب.

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.