أنا لا أكذب و لكني أتحمل
بقلم / الفنان أمير وهيب
حصل انه في يوم من صيف سنة ١٩٨٦ بعد انتهاء دراسة الصف الثاني الثانوي وظهور النتيجة ان استمتعت ب القطار بمفردي متوجها الي مدينة الإسكندرية صباحا للانضمام الي أفراد العائلة والذين توجهوا سابقا.
وداخل القطار جلست بجانب الشباك ، بعدها بدقائق انضم ثلاثة أصدقاء و طلبوا مني لو امكن تعديل اتجاه الكرسي بحيث ان يكون كرسيين في مواجهة كرسيين و بذلك يكون ثلاثتهم في نفس المجلس.
وافقت وبعدها وجدت نفسي كما لو كنت ضيف على ثلاثة أفراد لا أعرفهم وواضح انهم أكبر مني في السن.
بعد دقائق بادر واحد منهم و قال شكرا انا فلان و ذكر أسماء الاخرين و انهى تعريفهم بأنهم في الصف الثاني من كلية التجارة مصحوبا بسؤالي : وانت ؟
أجبت على الفور في اعدادي كلية الفنون الجميلة.
وبذلك ضيقت الفارق من ثلاث سنوات الي سنة واحدة.
ونتيجة هذه الكذبة كانت مذهلة ولم تكن متوقعة في تأثيرها ، حيث بدا عليهم ” الانتباه ” امام صاحب القدرات وأصبحوا هم الثلاثة يشعرون بأنهم الضيوف و عددهم اقل مني.
و يومها أدركت تأثير الفنون الجميلة ومسؤلية ان تكون فنان.
يومها أيضا أدركت أن من يقوم بفعل ” الكذب ” هو الشخص صغير الشأن حتى لو كان كبير السن.
وتحملت الكذبة لمدة ثلاثة ساعات حتى خرجت من محطة ” سيدي جابر ” وبعدها شعرت امام البحر بالارتياح كما لو كنت طالب كلية الفنون الجميلة فعلا.
وعندما بدأت دراسة الصف الثالث الثانوي كنت بتعامل مع الاخرين على أن التحاقي ب الفنون الجميلة هو مسألة وقت.
و أثناء دراسة الفنون الجميلة و بعد التخرج و قبل أن اكون رسميا فنان كنت مدرك هذا الدور و أهميته.
هذه الكذبة كشفت لي عن حاجة تأكدت منها فيما بعد الا وهي ” استباق اشتياق ” يمكن ان يتحقق اذا كانت النية سليمة إيجابية تستهدف الخير.
* هذا النوع من الكذب لا يضر احد و لا يخدع احد بغرض الوصول الي تحقيق أهداف شخصية و مكاسب مسلوب من حقوق الاخرين و لكنها كانت كذبة جميلة لوضع نفسي امام الأمر الواقع – مستقبلا.
* على مدار ٣٠ سنة كنت اقوم بتسويق وترويج كل ما هو جميل و اتصدى بكل حزم لكل ما هو قبيح.
* ان تقوم بمثل هذا الدور ك ” فرد ” و هو دور ” الحكومة ” هو حمل ثقيل جدا.
* حتى يومنا هذا و بعد مرور ما يقرب من ٤٠ سنة على هذه الكذبة الجميلة لازال القبح يتفوق و يكتسح و انا اتحمل هذا الإهمال و اللامبالاة و الاستهتار و لا يوجد تصميم ل ” كشك السجاير ” و لا ” كشك المرور ” و لا يوجد تصميم ل ” محطة الاتوبيس ” و لا يوجد تصميم ل ” حديقة عامة ” و لا نتعامل ماليا ب الجنيه و القرش و المليم و التليفزيون لا يعرض اعمال الفنون الجميلة و القائمة طويلة من تفوق القبح.
* و لا اجد أي مبرر لتجاهل نداء الجمال و إعلاء شأن القبح.
* و هل يوجد حل لهذه المعضلة أم سوف استمر في مخاطبة نفسي ؟
* و الي متى يمكن أن يتحمل انسان هذا القبح من ناحية و يتحمل أيضا الاستمرار في مخاطبة الحكومة التي لا تسمع و لا ترى و لا ” تشم ” و بارعة في ” الكلام “.
* ام تكتفي الحكومة مع الإعلام القائم على اعلانات التسول على ترديد ان الفنون جميلة شئ راقي.
* لا يهم كم الموارد التي تمتلكها إذا كنت لا تعرف كيفية استخدامها، فلن تكون كافية أبدا.
* مصر لديها ” كنوز ” من أنواع و اشكال من الموارد الطبيعية و من الموارد صنع الفنان متمثلة في الأعمال الفنية و الأثرية.
* حاليا ليس هناك مجال لأن أكذب و اصبح جزء من واجباتي الوطنية ان احتمل هذا الحمل الشاق من أوزان الغباء و القبح و احيانا يكون مصدره أفراد مقربين من العائلة و الاصدقاء مع نسبة كبيرة من المواطنين والمسؤلين.
* أخرهم تلوين ودهان اعمال نحت من خامة البرونز ل ” أسود ” كوبري قصر النيل.
* فعل غباء لا يقل في مضمونه عن تلوين و دهان خامة الذهب.
* أنا لا اكذب و لكني اتحمل.
أمير وهيب
فنان تشكيلي وكاتب ومفكر