الفن والثقافة

أنا وبنت ملك الجان

قصة قصيرة بقلم / د. محمد توفيق ممدوح الرفاعي

حبيبتي كيف كان حفل عيد ميلادك ،كمْ كنت متشوقا لمشاركتك فرحة عيد ميلاد أجمل وأحب مخلوق لدي ،وأن أكون إلى جانبك وأنت تتلقين التهاني بعيد الأعياد عندي . فهذه التهاني ليست لك وحدك فهي لي أيضا لأن هذا اليوم هو عيدي أيضا فميلادك هدية القدر لي.

والآن جئتك ألتمس العذر عندك فأرجو أن تتقبلي اعتذاري ،بالأمس شغلت عنك لعذر قاهر تسبب في تخلفي ومنعني من مشاركتك الاحتفال في أجمل مناسبة محببة إلى قلبي .حبيبتي شغلت بأمر أخذ مني كل وقتي الذي كان من المفروض أنه مخصص لك ولك وحدك . وللأسف وسوء حظي طبعا ليس منك فهو سوء شأني لم أستطع تنفيذا ما وعدتك به بالتحضير معا لهذه المناسبة، وأن أقف أمامك وتحت أنظار الجميع ،وأنا أقدم لك أجمل باقة ورد وفي داخلها كل ما أملك وهو قلبي ، وأطبع على رأسك قبلة المحبة  .

بالأمس يا حبيبتي بعد أن صحوت من النوم وضعت كل ما أملك من مال ادخرته لهذه المناسبة على المنضدة التي أمامي لأبتاع هدية تليق بك. وضعته أمامي وأنا أنظر إليه بعين حزينة فوجدتها أن هذه النقود لا تكفي لشراء أبسط وأرخص هدية تليق بحبيبتي في عيد ميلادها ، مهما قل ثمنها نظرا لغلاء الأسعار الفاحش الذي استشرى كثيرا دون رحمة. ولا أكتمك سرا بأنني حاولت استلاف بعض المال من الأصدقاء ولكن الجميع اعتذروا عن تسليفي أي مبلغ من المال لعدم توفره معهم فجلهم مثلي من أصحاب الدخل المحدود أو عاطلين عن العمل.

فتسألت بيني وبين نفسي ،إذا كنت لا أستطيع اليوم شراء هدية بسيطة لحبيبتي وشريكة حياتي المستقبلية في عيد ميلادها ،فإلى ماذا ستؤول إليه أحوالنا ومستقبلنا الذي عولنا عليه مشروع زواجنا الذي انتظره بفارغ الصبر ،والذي سيضمنا تحت سقف واحد. وعلى ما يبدو أنه أصبح كالحلم الذي يصعب تحقيقه فهو كمن يحاول تسلق السماء ليقطف نجمة. فالعقبات باتت تتكاثر حتى أصبحت عائقا دون تحقيق أبسط ما نصبوا إليه في حياتنا.

أخذت الأفكار والهواجس تأخذني ما بين المشارق والمغارب ، وتجول بخاطري أمور شتى حتى بت أفكر ما بين البقاء والهجرة للهروب من هذا الواقع الأليم. وكالعادة لجأت إلى علبة سجائري التي هي المتنفس الوحيد التي ألجأ إليها لأهرب من واقعي المؤلم ، رغم رداءتها وارتفاع ثمنها الذي يستهلك مبلغا ليس ببسيط من دخلي المحدود. أشعلت سيجارة وضعتها بين شفتي ،وبدأت أنفث دخانها الذي كان يصاحب جمر أنفاسي الملتهبة ،وهو يصنع دوائر تحوم فوقي. وأنا في هذه الحالة بين أنفاس متلاحقة ودخان سيجارتي الحارق ،داهمتني أحلامي المختبئة خلف عباءتها في ثنايا ذاكرتي التي صحت فجأة ، لتأخذني منك في رحلة ليست كالرحلات التي نعهدها، ونحلم فيها والتي حرمنا حتى من الحلم بها.

في لحظة وعلى غفلة مني حلقت في خيالات أفكاري وأحلامي المكبوتة التي استطاعت التخلص بأعجوبة خلسة من زنزانتها المحكمة الإغلاق، حيث كنت قد كبلتها فيها كي لا تخرج إلى عالم الوجود وتعيش الواقع المجرد من الحياة. كسرت الأقفال رغما عني نوحطمت كل القيود المفروضة متحدية كل قوانين المحرمات ، وأباحت لنفسها الانعتاق من الظلمة القاهرة آملة في أن تجد متنفسا لها، فاستطاعت إخراجي معها من عالمي المقهور إلى أحلام يقظتي الذي تجلى فيما لو كنت أمتلك مصباح علاء الدين ،أقوم بدعكه استخرج المارد الذي يسكنه كلما احتجت إليه ليحقق لي كل رغباتي ومتطلباتي وينفذ أوامري .

فإذا هي تقف أمامي جنية رائعة الجمال ،تشكلت متمثلة على هيئة بشر تلقي التحية بانحناء وتعلمني بأنها موفدة من قبل سيدتها بنت ملك الجان ، لتبلغني ارق سلامها ،ومدى إعجابها بي إثر رؤيتها لي أثناء جولة اطلاعيه على عالم البشر ،كانت تقوم بها وهي بصدد دعوتها لي بزيارة مملكة أبيها حينما يحين الوقت المناسب . والى أن يحين ذلك الموعد أرسلتها لتضع نفسها في خدمتي وتحقق لي كل رغباتي وتنفذ كل أوامري ، وبصحبتها عدد من المردة من الجن يكونون عونا لي وقت الحاجة وسيسهرون على راحتي طيلة الوقت .

تطاولت في نفسي وتعاليت بها وخرجت سحب الدخان متكاثرة من فمي ومنخري ،ونفشت ريشي كالطاووس الذي يجلس على العرش ،وابتسمت ابتسامة غرور حلقت فيها في عالم علاء الدين ، ونظرت إليها باستعلاء المتباهي أن تبلغ سيدتها تحياتي وشكري لها. ومن دواعي سروري قبول هديتها ودعوتها ،ومد يدها لي لنكون أول صداقة بين عالم البشر والجن في عصرنا الحالي بعد انقطاع لعهود طويلة . وطلبت منها أن تعد المكان المناسب لإقامتها عندي وامرتها بالانصراف على أن ادعوها حينما احتاجها . ثم بدأت بترتيب قائمة مطولة من الطلبات ،وما أطمح من تحقيق الأماني والحصول على الملك والسلطان والجاه ولعلني احظى بالزواج من بنت ملك الجان . ورتبتها كلها حسب أولوياتها ،وكان أولها أن امتلك المصباح السحري .

ومن دون أن انبث ببنت شفة كان المصباح السحري بين يدي ، وعلي الفور دلكته بيدي فإذا بالمارد يخرج ،المارد الضخم مجلجلا كالرعد ،شبيك لبيك عبدك بين يديك .فطلبت منه أن يحملني ويطير بي في رحلة حول العالم لأرى الأرض من فوق ، وأشاهد جمال الطبيعة واستطلع العمران والبلدان. وفي لمح البصر كنت أجلس على ظهره وهو يطير بي بين الأرض والسماء مخترقا السحاب. فنظرت غابة جميلة ذات سحر أخاذ ،وفي وسطها قصر منيف وحوله حرس يطوفون حوله بلباس أنيق .فسألته لمن هذه الغابة والقصر ، فقال لي وهل ترغب بهما ،فقلت نعم . قال هما لك فطلبت منه النزول فأنزلني وأدخلني القصر فإذا هو من أجمل قصور الملوك ،وفيه من الجواري الحسان ،والخدم والحشم الكثير حيث استقبلوني سيدا لهم. وبعد أن استرحت قليلا طلبت من الخدم إعداد أفضل ما عندهم من المأكل والمشرب .وما هي إلا لحظات حتى امتدت مائدة طعام فيها كل ما لذ وطاب من مأكل ومشرب .

فأمرت المارد أن ينصرف إلى أن احتاجه وبقيت الوصيفة معي تشرف على تنفيذ أوامري وإدارة القصر. وبعد أن أمضيت عدة أيام من أجمل أيام العمر طلبت من الوصيفة أن تجلب لي بساط الريح ، وقبعة الإخفاء .وعلي الفور كان لي ما أريد فامتطينا البساط نواصطحبت المصباح معي ،وطرنا معا نجوب الفضاء، ونتنقل بين المدن والأمصار . وكنت أرتدي قبعة الإخفاء حتى لا يرانا أحدا عندما ننزل على الأرض. فزرنا الممالك والقرى .وأقمنا في كل منها بعض الوقت ،حطمنا فيها قلاع القهر ، وأقمنا العدل والسلام بين الناس. عزلنا ولاة وأمراء وأقمنا ولاة وأمراء .

حتى طاب لي الأمر واستمتعت به نفطغت نفسي وتسلط بي حب السلطة نوتملكني حب التملك والملذات . فحققت كل ما جال في خاطري ،وتلذذت بكل ما لذ وطاب .ونسيت كل ما كانت عليه حياتي السابقة من بؤس وشقاء. اشتريت قصورا وقلاعا في كل مكان وقرى ومزارع وتجارة وأغلال. واقتنيت عبيدا وإماء .وأصبح لدي حاشية تأتمر بأمري وجيش من العبيد يشرف عليه المردة .وأصبحت الآمر الناهي في أماكن كثيرة من أصقاع الأرض ودانت لي الرقاب والممالك .

وفي صبيحة يوم من الأيام دخلت علي الوصيفة وأبلغتني دعوة سيدتها الأميرة بنت ملك الجان لحضور حفل يقام في قصر أبيها الملك بمناسبة عيد ميلادها. وسأكون ضيف شرف الحفل وحددت لي موعد السفر فطار عقلي من الفرح، كوني أخيرا سأحظى بلقاء الأميرة بنت ملك الجان الذي كان جل همي وطموحي .وعلي الفور طلبت من الوصيفة مساعدتي في اختيار أجمل الهدايا من الجواهر والدرر والعطور والديباج واللباس الذي يليق بالملك وابنته وبهذه المناسبة،ويليق بي كضيف شرف الحفل .

وبعد أن تم تجهيز ما يلزم لرحلة وحضور المناسبة استدعيت مارد المصباح الذي قام بمهمة إيصالنا إلى بلاد ملك الجان ،يصحبني جيش من الخدم والجواري لأقدمه هدية أيضا للملك. وما أن وصلنا إلى أبواب المملكة حتى فتحت الأبواب واستقبلني حشد كبير من المستقبلين  والمبعوثين وعلى رأسهم  المبعوث الشخصي للأميرة حيث هنأوني على سلامة الوصول،واصطحبوني إلى مكان إقامتي ،في القصر الذي اعد لي مسبقا كأحد القادة والملوك المهمين لدى ملك ملوك الجان.

وفي يوم الاحتفال اصطحبتني الوصيفة إلى قصر الأميرة فكانت من أجمل مما رأيت من نساء البشر ، تشع كالبدر المنير .وقفت مشدوها أمام جمالها وهي تستقبلني أجمل استقبال ،وترحب بي أجمل ترحيب .وأمسكت بيدي متجهة بي إلى حيث كان يجلس والدها الملك على عرش المملكة . فالقيت عليه تحية الملوك وقبلت الأرض بين يديه.فرد التحية ورحب بي واثنى علي وابدى إعجابه لما سمعه عني من ابنته الأميرة وتمنى لي طيب الإقامة بينهم  , ثم أجلسني بجانبه حيث يجلس خاصته المقربين وهو يجاذبني اطراف الحديث ،ويسألني عن أحوال بني البشر .وكانت ليلة من أجمل ليالي العمر والأفراح أمضيناها بين الرقص والغناء والطعام والفكاهة إلى الصباح . وعلى اثرها توطدت العلاقات بيننا ،وصار يدعوني لزيارته من حين لآخر .

أما من ناحية الأميرة ،ومن وقتها تعلق قلبي فيها ، ولم أعد أطيق صبرا على فراقها .فبت أسهر الليالي أناجيها وانتظر لحظة رؤيتها .وأفكر بالطريقة التي أستطيع أن أراها فيها. إلى أن خطر لي خاطر وهو أن أدعوها بمرافقتي في نزهة اعدها لها استغل فيها الفرصة وأطلب يدها للزواج منها . استدعيت الوصيفة وطلبت منها إبلاغ سلامي للأميرة ودعوتها إلى مرافقتي في نزهة على بساط الريح أعددتها لها متمنيا عليها عدم رفض الدعوة. وعندما عادت الوصيفة أبلغتني أن الأميرة بانتظاري في قصر الملك وعلي مقابلتها حالا . ولدى وصولي استقبلتني استقبالا ولا أروع مما شجعني أن أفاتحها بنيتي في طلب يدها ، فطلبت مني أن أدخل وأقابل الملك لأطلب يدها منه، بعد أن تدخل هي إليه وتستأذنه بدخولي لمقابلته .فأذن لي ودخلت وأديت له تحية الملوك وكان استقباله رائعا و سألني عن أحوالي ومطلبي وعلى الفور وبكل جرأة بعد أن شكرته طلبت يد ابنته الأميرة للزواج منها .

مرت فترة صمت أحسست أن الدنيا ستغيبني عنها لكنه ابتسم أخيرا ووافق على طلبي. شكرته ثانية وقبلت الأرض بين يديه .واستأذنته بالخروج على أن تصحبني الأميرة في نزهة أعددتها لها على بساط الريح في هذه المناسبة السعيدة، لترى ما حققت من إنجازات ،وما أملك من قلاع وحصون. فوافق على ذلك وقبلت الأميرة الدعوة على أن يتم تحديد الموعد في وقت لاحق .

وفي اليوم المحدد امتطينا بساط الريح برفقة وصيفتها ومرافقي الشخصي وبعض الخدم وأخذنا معنا اطايب الطعام وأجود أنواع الخمور والمدام وأفخر أنواع النبوغ والدخان ونزلنا في مكان أشبه بالجنة فكانت رحلة يسجلها تاريخ الأحلام أكلنا وشربنا المدام ورقصنا وأمضينا أجمل الأوقات إلى أن أتعبنا الرقص فجلسنا على الأرض لنستريح ونشرب الأقداح.

تناولت سيجارة من علبة سجائري الفاخرة ،وأشعلتها بعود ثقاب ورميته على الأرض .وأنا أنفث الدخان فإذا النار قد اشتعلت والدخان يملآ المكان بسبب اشتعال بساط الريح من عود الثقاب .واختفت الأميرة ووصيفتها وأدت النار إلى انفجار المصباح السحري ليخرج المارد غاضبا ويصفعني صفعة تهوي بي من أعالي السماء إلى سحيق الأرض.

لأصحو وأنا أصرخ من الألم واجد نفسي على سريري وقد احترقت شفتاي بسبب حرارة سيجارتي الذي وصلت إلى نهايتها ولا زالت في فمي وقد نسيتها بسبب تلك الأحلام أحلام اليقظة التي كانت تتراءى أمام ناظري والتي عادت إلى زنزانتها خائبة. والتحفت غطاء المأساة الداكن وقد فشلت في التمتع بالنور ،وقد عهدت الظلام . ولأعود أنا أيضا على إثرها إلى واقعي المنكوب وأعيش المأساة في عالم حرمت عليه حتى الأحلام .فلا أنا حققت أحلامي لا في يقظتي ولا في منامي .

 

*د. محمد توفيق ممدوح الرفاعي ،كاتب وشاعر سوري 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.