البحث العلمىوضوح التعليمي

اسراء.. بنت تاهت في الحاكورة وظهرت بين المبدعين بهيئة التدريس بالجامعة 

البنت التي كانت تتوه ككل فتيات القرية في “الدرب” وفي “الحاكورة” لم تكن تدري أنها ستصبح باحثة، في تنمية القرى المصرية بل “دكتورة!.

يا الله! كنت أعود بذاكرتي الي أهل الحرف القديمة في قريتي، عندما فاجأتني إبنة بنت ابن عمي، بموضوع رسالتها في الدكتوراة عن “حالة القرى الحرفية”!

عدت بذاكرتي الي “درب الشموسة” الذي كان ساحة لصنع “الأسبتة” وتوزيع الخير والفرح من الرملة الي القاهرة والاسكندرية، فيما كانت الفتاة التي كانت ككل فتيات القرية يتهن في “الحاكورة” ويذاكرن على الطبلية،  تجهز لمناقشة الدكتوراة باذن الله في هندسة شبين الكوم العريقة، وعن نفس الموضوع بعد أن حصدت الماجستير وأصبحت “أستاذ مساعد” بجدارة!

رحت أستدعي مشاهد وصور الاتقان الحرفي في “الرملة” بينما كانت المهندسة النابغة اسراء طالبة الدكتوراة تتجول في القرى المجاورة “جريس” و”شما” و”ساقية المنقدي” و”ساقية أبو شعرة”، لرصد كافة المعوقات التي تواجه الحرفيين المهرة!

والحق أن “الرملة” كانت نموذجا جميلا لما كانت عليه القرى المصرية قديما، فأهلنا “الخواطرة” صناع وحرفيون، يجيدون اصلاح كل شيء بدءا من الجرارات الزراعية، نهاية بطلمبات المياه. وكان العم عبد المحسن السيسي وولده “محمد” يجيدان نفس الصنعة.

وظل العم زيدان وعبد العظيم طلعات ابن العمة “فج النور” وقبلهما العم ذكي الهواري اساتذة في اصلاح “بوابير الجاز” واللمبات و”كلوبات” النور.

وفي الدرب “درب الشموسة” كان الأعمام والاخوال أمين ومصطفى الشرقاوي وابراهيم حسين وأولادهم وزوجاتهم يجيدون صناعة الأسبتة “بدائل الحقائب” في السفر، والقروات – جمع قروة – “للدجاج والبط” و”البنيات” – جمع بنية – للحمام، فضلا عن الحصر “جمع حصيرة” والجمال بلا حصر!

يصبح البوص في أياديهم نديا .. لا يقاوم ولا يئن، وكأنه يدرك أنه يساهم في أجمل لوحات الكون!

أما أحلامهم القابعة في الأقفاص في سكون، فلم تكن تهوى الطيران، بقدر ما كانت تهش لعودة المسافرين والغائبين!

وفي “البركة” كان الحدادون يواصلون صنع أدوات الزراعة والأفران البلدية والأسلحة الخفيفة!

وكان اعمامنا الأقباط فهمي سليمان وأولاده فوزي وصبحي وعريان، يمتهنون حرفة النجارة ببراعة واتقان!

هؤلاء وغيرهم في الحقيقة، كان النهار من فرط تبكيرهم، يستأذنهم في الدخول، وكانت النجوم من طول سهرهم، تستاذنهم في الأفول !

لقد كانوا يرهقون أعينهم وهم ينسجون السعادة بأناملهم، وكأنهم يدققون في الخرائط، فيما يعلقون صبرهم على الحوائط!

من تلك البيئة الجميلة خرجت زهرتنا الأجمل “اسراء صبحي محمد طه” فحصلت على بكالوريوس الهندسة ثم الماجستير، وأثناء تحضيرها للدكتوراة اختارتها الأستاذة الدكتورة ايمان عيد لتكون مقررة للجنة الخاصة بدراسة وتقييم الوضع الحالي للقرى الحرفية، مع الدكتورة نهى محمد عز الدين أمين، و الدكاترة والمهندسين مروة جمعة الأدهم، وناهد أحمد عمران، وأحمد الوليد التوني، وحازم أشرف!

وفيما وقفت اللجنة على معوقات حرفة التطعيم بالصدف في قرية “ساقية المنقدي” تعرف فريق العمل على مشاكل تسويق “السيرما” في قرية “شما”، ومعوقات صناعة الفخار والخزف في قرية “جريس”، والصعوبات

التي تواجه صناع السحاد اليدوي المهرة في قرية “ساقية أبو شعرة”!

يقينا لم تكن الدكتورة نهى تعرف أن زهرتنا “اسراء” التي لم تضع موهبتها في عتمة العناء، ولم تتوقف عن التأمل كل مساء، ستملأ الدنيا علما وجمالا وبهاء!

بل ان الدكتورة ناهد رغم أنها ترأست باقتدار جهاز التنسيق الحضاري، لم تكن تعرف وهي تساهم في انصهار اسراء، أن هذه الفتاة كانت ومازالت تحلم بقرية جميلة، لكنها بسيطة، تمتلأ بطمي الجمال والخصوبة!

الآن، آن للاستاذة الدكتورة “إيمان عيد” أن تفرح بغرسها وباحدى بناتها، وبكسبها الرهان.. آن للدكتورة ايمان عيد أن تدرك أن شمس المعرفة طالما امتلأت مصر بمثيلاتها من الأساتذة الأمهات بحق لن تغيب، وأن مجد الحضارة المصرية القديمة يمكن أن يعود!

هذه باختصار حكايتي مع اسراء.. حفيدة ابن عمي كمال على هلال، البنت التي كانت تنتحي جانبا في الفناء، فترسم الحروف وتخصم المطروح، وتبني بيوتا في الهواء.. يبدو أن أدركت مبكرا مثل جدها لأمها قيمة الجمال ومعنى العمران وروعة الإنشاء!

مختارة من صفحة الكاتب الصحفي شريف قنديل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.