الجذور لا تموت ..(2) دموع الحنين

بقلم / الدكتور أمين رمصان
شجرة العنب وعمي بسيوني
ما زلت أذكر قصة روتها لي أمي عندما كنت طفلاً صغيرا، بينما أنا الآن في عامي الخامس والسبعين، وهي أن جارنا في مساكن السكة الحديد في حي كرموز بالإسكندرية، زرع شجرة عنب وظل يرعاها حتى كبرت وصعدت فوق السطوح، وانتشرت فروعها فوق تكعيبة الخشب التي بناها لها، وكان كل عام يجني منها عناقيد العنب الناضجة، وعندما وافته المنية، كان أول وآخر ميت أحضر غسله من بعيد، وأنا أقف واجماً، وداخلي أمواج عاتية من المشاعر والأفكار، وأسئلة كثيرة حائرة في عقلي، ودقات قلبي كأنها موسيقى جنائزية مليئة بالشجن والذهول.
مات عمي بسيوني، وبعد موته مباشرة ماتت شجرة العنب، ربما حزناً عليه، لا أدري!، هكذا قالت لي أمي، لم يستوعب عقلي في ذلك الوقت العلاقة بين شجرة العنب وموتها وعمي بسيوني، بين المكان بكل تفاصيله والإنسان، لكن تقبلتها وعاشت معي كأمواج البحر داخل عقلي، تغيب وتجيء، أحيانا هادئة، وأحيانا صاخبة فتصطدم برأسي من الداخل ثم تختفي إلى حيث لا أدري.
من كرموز إلى العالم
تفرق أطفال السكن بعد أن كبروا، في دروب الحياة، بحثاً عن لقمة العيش، أو تحقيق الذات، أو كلاهما، وسافرت للعمل بالجامعة في السعودية عام 1981م، وعندما انتهى عملي عدت للإسكندرية عام 2018م، وخلال هذه الفترة الزمنية التي امتدت 37 سنة عايشت أناس من جميع أنحاء العالم تقريباً، عشت حياتي العلمية بكل كياني، وتوقفت إلى حد كبير علاقاتي الاجتماعية، فلقد أدركت أن كل شيء مؤقت، عشت بجسدي وعقلي هناك في الجامعة، متنقلاً بين معامل الأبحاث، وقاعات المحاضرات، طالباً ومحاضراً، وعشت بقلبي وروحي في الإسكندرية مع ذكريات حياتي، التي ظلت كامنة في أعماق وجداني وعقلي وروحي حتى الآن.
لقاء القلوب والأرواح بعد غياب
لم أكن أتخيل أنني سألتقي مرة أخرى بجذوري الأولى في الواقع، ثم التقينا عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وكان اللقاء عاصف بين الجميع، رغم قلة العدد، طارت القلوب والأرواح عبر الأثير ليحتضن بعضها بعضاً في حب جارف، وانسابت دموع الفرح من الجميع، كأنها أحرف من المشاعر الصادقة، والكامنة فيها نت عشرات السنين، ترقص وتبكي على دقات القلوب التي عادت لها ذكريات حياتها الأولى، حية نابضة، بكل جمالها كما اعترف الجميع تقريباً، كانت أجمل أيام، قالها الجميع بدموعهم ونحيبهم قبل ألسنتهم.
سؤال الختام… وإجابة مفتوحة
فهل كانت الفرحة بلقاء الأرواح؟
أم بعودة الذكريات؟
أم بكليهما معًا؟
لا أدري… ولكنني أيقنت أن الجذور لا تموت.
للرحلة بقية إن شاء الله
الإسكندرية 29 أبريل 2025
#العودة_إلى_الجذور #الذكريات #تأمل #معنى_الحياة #ذكريات_الطفولة #دموع_الفرح