الخادمة… تأملات بقلم : الدكتور أمين رمضان
جلست في الكوفي شوب، أنتظر انتهاء زوجتي من التسوق.
وأنا أرتشف الكاكاو الساخن، مثل الحرارة التي تنبعث من عقلي وقلبي، جلست على طاولة مقابلة، أم وبناتها الثلاث، الأولى عمرها حوالي ١٦ عام، والثانية حوالي ٦ أعوام، والثالثة طفلة صغيرة، وعلى الطاولة التي أمامهم، جلست الطلبات التي طلبوها تنتظر مصيرها. جلسوا جميعاً يأكلون ويشربون والأم تتبادل أطراف الحديث مع الابنة الكبرى … نظرت الأم إلى الابنة الوسطى وقالت لها: حرام تتركي قهوة في الكوب، طالبة منها أن تشربها كلها حتى لا ترتكب حراماً.
وعلى طاولة أخرى بعيدة عنهم كانت تجلس الخادمة، وحيدة، ربما لأنها لا تستحق أن تجلس معهم، كما يقول ذلك الموقف، والطاولة أمامها خاوية ليس عليها شيء، والانكسار على وجهها وفي أعماقها.
للأمانة لست أدري إن كانوا سألوها إن كانت تريد شيئاً أم لا، لكن لا يبدوا لي ذلك، من نظرات عينيها، ثم أليست إنسانة تشتهي مثلهم.
جلست في حيرة مع نفسي، هل أطلب لها شيئاً لتشربه؟؟؟!!!، لعله يعيد لها إحساسها بإنسانيتها، الحقيقة أنني ترددت، خوفاً من أن يثير ذلك حفيظة الأم فتعطيني درساً في الأخلاق، كما أعطت لابنتها درساً في الحرام، ظل التردد داخلي والألم معه يعتصرني، متمنياً أن ينتهي التردد ويأتي النادل (الجرسون) وأطلب منه أن يذهب إليها ويسألها ماذا تريد؟؟؟!!!.
وبينما ينهش التردد في أعماقي، لملمت الأسرة حاجياتها وقررت مغادرة المكان ومعهم الخادمة، ليواصلوا تسوقهم ومتعتهم.
سألت نفسي: تُرَى ما الذي سيتعلمه الأولاد من هذا الموقف وأمثاله؟، أين الإسلام الذي ينتمون إليه من حياتهم، أليست الخادمة نفساً، خلقها نفس الرب الذي خلقهم، وكرمها كما كرمهم، وجعل التفاضل له وحده بالتقوى التي يعرفها هو وحده، وأن أدوارنا في الحياة لا يترتب عليها تمييز في قيمة الناس، فيتعامل أحد مع آخر بعلوية وينظر له بدونية، ستتعلم البنت أن ترك قهوة في الكوب حرام بينما إهانة وإذلال نفس ليست حرام، لأنها خادمة، فإن لم تكن العنصرية البغيضة هذه، فماذا تكون؟؟؟!!!.
ثم كيف سترى الخادمة الإسلام عندما تعيش مع مسلمين يعاملونها كأنها سقط متاع، هي لا تعرف أن هذا ليس هو الإسلام، لكنها ستظن أنه كذلك، بينما الحقيقة أنه بعيد كل البعد عن الإسلام، وهذه إشكالية كبيرة عندما لا يكون الإسلام الذي يعيشه الناس غير الإسلام الذي أرسله الله للناس جميعاً، منذ آدم عليه السلام، إلى أن تقوم الساعة.
لم تكن الجريمة في حق خادمة، لكنها جريمة في حق الإنسانية التي تمثلها هذه الخادمة، لأنها إنسانة.
وللأمانة والإنصاف أعرف من يعامل الخادمة على أنها فرد من الأسرة، لكنهم قلة، ولن أدعي أن الموقف عام في المجتمع، لغياب الاحصائيات الدقيقة، وليس ذلك هدفي أيضاً من هذه المقالة.
هدفي أن يراجع كل منا نفسه، ويعامل الناس جميعاً باحترام مبني على قيمتهم الإنسانية، لأنها القيمة الوحيدة المشتركة بين الناس، ولا يعاملهم على أساس أدوارهم في الحياة، فالأدوار تتنوع من أجل خلق شعور عام بأن كل واحد منا يحتاج للآخر، بسبب تنوع الأدوار وليس بسبب أفضلية الأدوار، فالناس تختلف في الأدوار، وتتساوى في القيمة، هذا في الميزان الرباني، أم الموازين البشرية المختلة فسوف تتساقط كلها عندما يأتي اليوم الحق.