الدراما بين الحقيقة والوهم: كيف تصنع «نماذج خادعة» تهزّ استقرار العلاقات؟

بقلم / الدكتورة هناء خليفة
في السنوات الأخيرة، لم تعد الدراما مجرد حكايات تُروى للمتعة أو قضايا تُطرح للنقاش، بل تحوّلت إلى مصنع ضخم لتشكيل الوعي الجمعي وصياغة تصوّر الناس عن الحياة… عن الحب… عن الزواج… وعن شكل “البيوت السعيدة”.
ومع كل موسم درامي، يبدو أننا أمام موجة جديدة من التمثيلات اللامعة: بيوت فاخرة، سيارات فارهة، حياة مثالية، ومشاهد ناعمة تبدو كأنها خارج حدود الواقع. وهنا تحديدًا تبدأ المشكلة.
*بيوت على الشاشة… وشرخ في البيوت الحقيقية
عندما تفتح الدراما أبوابها على عالم خيالي مُترف، بينما يعيش أغلب الناس ظروفًا مختلفة تمامًا، يحدث شيء خطير دون أن ننتبه:
ترتفع سقوف التوقعات داخل العلاقات الأسرية.
فالمرأة ترى في المسلسل زوجًا لا يغضب، لا يخطئ، لا يتعب، لا يفكر في ضغوط الحياة… فقط يقدم الهدايا ويخطط للسفر!
والرجل يرى زوجة صباحها مثالي، شعرها مثالي، حياتها خالية من الفواتير والمسؤوليات والمجهود!
ومع الوقت، يبدأ أحد الطرفين – أو كلاهما – في مقارنة حياته بما يراه على الشاشة… فيشعر بأن شيئًا ناقص، أو أن الطرف الآخر “مش زي الناس اللي في المسلسل”.
وهكذا يتحول الوهم البصري إلى أزمة حقيقية داخل البيت.
*النماذج الخادعة: وضغوط المقارنة تربك المشاهد
الدراما ليست المشكلة في ذاتها، لكن نموذج الحياة الذي تقدّمه أحيانًا يصبح بعيدًا عن الواقع لدرجة تُربك المشاهد.
هذه النماذج لا تخلق فقط رغبات غير حقيقية، بل تُشعر البعض بأن حياتهم أقل قيمة أو أقل رفاهية.
ومع كل مقارنة، يتسرب الاستياء… ثم تتآكل القناعة… ويبدأ الشك في الشريك… وتظهر جملة خطيرة:
“ليه حياتنا مش كده؟”
إنها المقارنة التي لا يخرج منها أحد رابحًا.
*انعكاس مباشر على العلاقات… وارتفاع معدل الطلاق
لا يمكن فصل الحديث الرئاسي الأخير عن هذه الحقيقة، فعندما يلاحظ رأس الدولة أن الدراما قد تكون أحد أسباب ارتفاع معدلات الطلاق، فهذا يعني أننا أمام مؤشر اجتماعي مهم يجب الوقوف عنده.
فالدراما – بشكل أو بآخر – أسهمت في:
▪️خلق صورة غير واقعية للحياة الزوجية
▪️نشر نمط استهلاكي وضغط معيشي غير مبرر
▪️تعزيز فكرة أن “السعادة = الرفاهية”، وليس التفاهم والمودة والصبر
▪️خلق فجوات نفسية بين الأزواج بسبب المقارنة المستمرة
إنها ليست قضية فن فقط… إنها قضية وعي مجتمعي.
نحو دراما أكثر واقعية
هل الحل منع هذه النماذج؟ بالطبع لا… الحل أعمق!
المطلوب ليس تقييد الإبداع، بل تنويع النماذج.
نريد دراما تُظهر الحياة كما هي:
▪️بيوت بسيطة لكن مستقرة
▪️أسر تتعامل مع خلافاتها بنضج
▪️زوجان يحاولان قبل أن يستسلما
▪️قصص نجاح حقيقية داخل بيئة عادية
▪️نماذج بشرية طبيعية… لا تجميل فيها ولا مبالغة
نريد دراما تحتفي بالواقعية، وتعيد تعريف معنى السعادة بعيدًا عن الرفاهية المفرطة.
*مجتمع أقوى… يحتاج إلى وعي أعمق
الإعلام اليوم ليس مجرد ترفيه؛ إنه قوة ناعمة تعيد تشكيل نفسية المجتمع وقيمه وسلوكياته.
ولذلك، فإن كل مشهد، وكل اختيار بصري، وكل “نموذج للحياة” يقدّم على الشاشة، هو رسالة مباشرة للمشاهد…
وربما قرار غير مباشر داخل حياة أسرية لم تنتبه أن الخيال دخل البيت من الباب الخلفي وبدأت المقارنات.
الدراما جزء من قوتنا الثقافية
وختاماً… الدراما جزء من قوتنا الثقافية، لكن قوتها الحقيقية تظهر عندما تبني لا عندما تُربك، عندما تعكس الحقيقة لا الوهم، وعندما تقدّم نماذج تُلهم الناس للحياة… لا نماذج تجعلهم غير راضين عنها.
فالحقيقة أن العلاقات لا تنهار بسبب اختلاف الأثاث…بل تنهار عندما نسمح للخيال أن يصبح معياراً للحياة الواقعية.
دكتورة هناء خليفة
دكتوراة في الإعلام من كليه الاداب جامعه المنصورة
مهتمة بقضايا الفكر والوعي




