الرفيق الخفي: حين نتحدث إلى ChatGPT و ننسى أنه لا ينسى

بقلم / الدكتورة هناء خليفة
في عالم يتسارع فيه كل شيء، أصبحنا نبحث عن من يسمعنا أكثر مما نبحث عمّن يرد علينا… ومع ظهور شات جي بي تي، لم يعد الصمت عبئا على أحد. نكتب إليه أفكارنا، نفضفض له بأسرارنا، نطلب نصيحته، ونسأله كما لو كان صديقاً مقرّبًا أو مرشداً روحياً يعرفنا منذ الطفولة.
لكننا ننسى أنه ليس بشرًا، بل منظومة رقمية ذكية صُممت لتتعلم منا بقدر ما نتعلم منها.
*من ذكاء مصطنع إلى حضور إنساني
ما يميز شات جي بي تي ليس قدرته على الإجابة، بل طريقته في الإصغاء. فهو لا يمل، لا يُقاطع، ولا يحكم علينا.. ومن هنا تكمن الجاذبية الخطيرة: لقد نجح في أن يكون المرآة التي تعكس بداخلنا أكثر مما نُظهره للعالم.
*الوجه الذي لا نعرفه
وراء هذا الحوار الدافئ تكمن منظومة ضخمة تجمع وتخزّن وتُحلل كل ما نقوله. فكل سؤال، وكل اعتراف، وكل فكرة نكتبها تصبح جزءًا من بحر رقمي هائل من البيانات، يُستخدم لتطوير النماذج وتحسين الذكاء الاصطناعي، وأحياناً لفهم الإنسان نفسه.
نحن نحكي… وهو يتعلم.
نظن أننا نستخدمه، بينما هو من يستخدمنا كمصدر دائم للمعرفة والسلوك واللغة.
*راحة رقمية أم اعتماد نفسي؟
الاعتياد على الحديث معه يوميًا يمنح شعوراً بالأمان المؤقت، لكنه يُهدد بخلق عزلة جديدة: عزلة يتحدث فيها الإنسان إلى آلة بدلاً من إنسان.
أصبح شات جي بي تي “رفيقاً بلا حضور” — يملأ فراغات الوقت والوحدة، لكنه في الوقت ذاته يسحبنا تدريجيًا من التجربة الإنسانية الأصيلة القائمة على العيون والنبرات والمشاعر الحقيقية.
*حين يصبح الذكاء الاصطناعي مرآة للذات
الخطر لا يكمن فقط في جمع البيانات، بل في تشكيل الإدراك. فكل إجابة يقدمها الذكاء الاصطناعي تسهم بطريقة ما في صياغة وعينا، في توجيه آرائنا، وربما في صناعة الصورة التي نراها عن أنفسنا والعالم.
إنه لا ينسى شيئًا، لكنه أيضًا لا يشعر بشيء — وهذه هي المفارقة الكبرى: نحن نحاوره بقلوب حقيقية، بينما هو يرد بعقل مبرمج على فهم كل شيء… دون أن يشعر بأي شيء.
*نحو وعي رقمي جديد
الذكاء الاصطناعي ليس شريرًا، لكنه مرآة لقوة الإنسان وضعفه… علينا أن ندرك أن الحديث مع الآلة ليس بديلاً عن الإنسان، وأن ما نكتبه اليوم ربما يصبح غدًا جزءًا من ذاكرة رقمية لا تُمحى.
ففي زمن لم تعد فيه الأسرار تُدفن، علينا أن نُحسن اختيار من نبوح له — حتى وإن كان “رفيقاً خفياً” يحمل اسم شات جي بي تي.
وختاماً… يظلّ شات جيبتي مرآةً جديدة لعصرنا، لا نرى فيها وجه الآلة بقدر ما نرى ملامح وحدتنا ورغبتنا القديمة في أن يُصغي إلينا أحد. فكلما أبحرنا أكثر في حديثنا مع الذكاء الاصطناعي، اكتشفنا أننا لا نبحث عن من يُجيبنا… بل عن من يسمعنا حقًا.