الصراط المستقيم

السيرة النبوية (27) لماذا اختار النبي الحبشة .. مهجرا لصحابته

بقلم الدكتور : محمد النجار

 ذكرنا في الحلقة (26) بكاء الملك واساقفته  عند سماعهم سورة مريم ، ورفض النجاشي تسليم المهاجرين الى قريش ، وسنتعرف في هذه الحلقة على الحبشة واسباب اختيار النبي لها دون غيرها مهجرا لصاحبته رضوان الله عليهم ، اترككم مع الحلقة( 27)..

الصحابة في مهجرهم بالحبشة آمنون :

شعر المهاجرون من صحابة رسول الله بالأمن في مهجرهم بالحبشة ، وان لهم سندا قويا   في تلك الغربة البعيدة عن اوطانهم لم يجدوها في بلادهم التي نزل فيها الوحي ، فقد بسط لهم الملكُ العادلُ جناح الإكرام والترحيب ، واحسن وفادتهم ، وكانت بواعث الخير من المودة الانسانية متوافرة في هذا الملك العظيم الذي سجل لنفسه ولأمته موقفا انسانيا لا ينساه له التاريخ ، وستظل امة الاسلام والمسلمين تذكره بالمحبة والخير الى يوم الدين .

اسباب اختيار الحبشة مكانا للهجرة :

1)     محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم للحبشة  ولعل تلك المحبة لها أسباب منها:

أ‌-      حكم النجاشي العادل.

قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه قبل هجرتهم  :

(( لو خرجتم الى أرض الحبشة ، فإن بها ملكا لا يُظلم عنده أحد )).

ب‌-     النجاشي الملك الصالح :

وصف  النبي صلى الله عليه وسلم ملك الحبشة بالملك الصالح  بقوله :

(( وكان بالحبشة ملك صالح يقال له النجاشي، لا يُظلم أحد بأرضه ))

ت‌-     معتقد النجاشي السليم في عيسى عليه السلام

ث‌-     الأحباش أهل ديانة سماوية ، يدينون بالمسيحية  التي بشرت برسالة محمد صلى الله عليه وسلم ، وهم أقرب إلى الإسلام ، بعكس عبادة الاوثان التي كانت سائدة في الجزيرة العربية .

ج‌-     معرفة الرسول صلى الله عليه وسلم بأخبار الحبشة وطبائع أهلها  من خلال حاضنته أم أيمن رضي الله عنها، التي ثبت في صحيح مسلم وغيره أنها كانت حبشية.

2)     لم يتم اختيار  المناطق العربية التي يسكنها المشركون والوثنيون لأنها  محفوفة بالخطر، فان المشركين كانوا سيمتنعون عن قبول المسلمين في أرضهم إرضاء لقريش أو وفاء وتعصباً لدين الآباء (الوثنيّة).

3)     لم يتم اختيار المناطق التي يسكنها اليهود والمسيحين في المناطق العربية حيث كان الصراع بينهما لايعطي مجالا  لقبول طرف ثالث في حلبة الصراع ، بالاضافة الى ذلك اليهود والنصارى كانا يحتقران العنصر العربي الغير مرغوب في التعايش معهم.

4)     كانت  “اليمن” تحت سيطرة الحكم الإيرانيّ الملكيّ، ولن تسمح للمسلمين باللجوء الى ربوع “اليمن”، وقد عُرفت من نقمتهم عل المسلمين ونبيهم محمد صلى الله عليه وسلم و على الدعوة الاسلامية لدرجة انه لما وصلت رسالة النبي صلى اللّه عليه وسلم  الى “خسرو برويز” كتب بكل حقد وازدراء  الى عامله في اليمن فوراً “احمل إليَّ هذا الذي يذكر أنه نبيُّ، وكتب اسمه قبل اسمي، ودعاني إلى غير ديني !!.

5)     كانت “الحيرة”  أيضا تحت نفوذ  الاستعمار الايرانيّ كاليمن ، ولن تقبل المسلمين لديها .

6)     كانت  “الشام” بعيدة عن “مكة المكرمة”، وفي نفس الوقت كانت  “اليمن” و”الشام” سوقين لقريش التي ترتبط بسكان هاتين المنطقتين بروابط وعلاقات وثيقة،بما يمكنها من طلب تسليم المهاجرين الذين  يلجأون إليهما .

7)     كانت الحبشة معروفة لأهل مكة ، و اسواقها  جذابة لتجار مكة لتسويق تجارتهم ويحققون من اسواقها الأرباح الطائلة والمكاسب الهائلة .

8 )    كان أهل الحبشة ينظرون لأهل مكة نظرة تقديس وأنهم  (أهل الله) الذين يتمتعون بالحماية الإلهية منذ حادثة الفيل التي اهلك الله فيها جيش ابرهة الذي جاء ليهدم بيت الله الحرام ، فأرسل الله  عليه وعلى جنوده طيرا ابابيل، تحمل الهلاك المباشر لهذا الجيش الجرار ،فكانت العناية الالهية التي انقذت مكة وبيت الله الحرام من جيش الطاغية  ابرهة .

مفهوم أرض الله الواسعة :

نزلت الآية الكريمة  :

))لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ ، وَأَرْضُ اللهِ وَاسِعَةٌ ، إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ(( سورة  الزُّمر : 10

تشير الآية المباركة  الى أن أرض الله واسعة ، ولا يليق بالإنسان المؤمن  الحر الاستسلام للطغاة والباطل بحجة الارض والوطن، فإن أعظم قطعة في الأرض هي التي يُعبد فيها الله بحرية تامة دون منغصات أمنية او مكايدات إقصائية تمنع الانسان من ممارسة عقيدته وشريعته، ولا تفضلها قطعة أخرى بأنهار أو أشجار، أو بأموال أو بأهل أو عشيرة، إنما الأرض الصالحة الطيبة هي الأرض التي يعبد فيها الله .

 ومن ثم أذِن الله سبحانه وتعالى للمؤمنين بالهجرة من أشرف بقعة على وجه الأرض (مكة المكرمة) التي ضاقت على المؤمنين برسالة الوحي وفيها بيت الله الحرام ، وفيها رسول الله صلى الله عليه وسلم لكنها لا تنعم بالحرية  و لا يستطيعون أن يعبدوا الله كما يريدون ، وتركها الى بلاد بعيدة غير مسلمة لكنها تنعم بالحرية ويحكمها العدل ، حيث الأهم أن يعبدوا الله دون أن يفتنوا في دينهم .

ومن هنا عظَّم الله كثيرًا من أجر الهجرة عندما تكون في سبيله، فقال تعالى:

((وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ * لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ ((سورة الحج: 58، 59

واذا كان النبي صلى الله عليه وسلم اختار ارض الحبشة مهجرا لأصحابه فرارا بدينهم وعقيدتهم ، واذا كان النجاشي الذي كان يؤمن بالنصرانية قد اختاره النبي صلى الله عليه وسلم لصلاحه وعدالته .

وهذا يدعونا نتساءل : ماهي أ رض الحبشة ؟ ومن هو النجاشي ؟ وما هي قصة حياته ؟

الحبش وارض الحبشة  :

الحبش : جنس من السودان ، وهم الأحبش والحبشان والحبيش. وفي الحديث النبوي :

((أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن عبدا حبشيا ))

أي أطيعوا صاحب الامر وإن كان عبدا حبشيا ، فحذف كان ، وهي مرادة .

والأحبوش : جماعة من الحبش، وهي الجماعة أيا كانوا لأنهم إذا تجمعوا أسودوا

واحبشت المرأة بولدها : أي جاءت به حبشي اللون.

أما كلمة الحبش : فتطلق على سكان الحبشة . فالحبش : هم جنس السودان.

والحبش سكان بلاد الحبشة . وبلاد الحبشة هي اثيوبيا وهي في افريقيا الوسطى.

وقد ورد ذكر الحبش في احاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فعن سمرة ابن جندب ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :

(( سام ابو العرب ، ويافث أبو الروم ، وحام أبو  الحبش ))  .

انتساب الحبش لحام بن نوح :

 يقول النووي في تهذيب الاسماء والصفات  :

الحبشة جبل معروف ويرجع نسب الحبش الى حام بن نوح عليه السلام ، وهم أكثر الناس وبلادهم أكثر البلاد .

واشار ابن حجر الى الحبشة بقوله   :

أرض الحبشة جبل معروف بالجانب الغربي من بلاد اليمن ، ومسافتها طويلة جدا ، وهم اجناس، وجميع فرق السودان يعطون الطاعة لملك الحبشة ،وكان قديما يلقب بالنجاشي ، وأما الآن  فيلقب الحطي ، بفتح الحاء وكسر الطاء المهملتين، وتخفيف الياء 10).

اما ابن حزم  فيقول  :

وفي التوراة : أن حام بن نوح ولد السودان ، والقبط والتبت وكنان والسند والهند ، وفي التوراة أن يافث بن نوح ولد الترك ويأجوج ومأجوج والفرس والصقالبة والإفرنج، والبُلغر ..)

الحبش  والعرب .. تاريخ قديم

وورد في كتاب دراسات في تاريخ العرب قبل الاسلام ص120 للدكتور السيد عبدالعزيز سالم :

ويعتقد بعض العلماء ان الحبشة (حبشت) كانوا في الاصل جماعات عربية يمنية تقطن الساحل الجنوبي لشبه جزيرة العرب شرقي حضرموت، ثم هاجرت غربا حيث عبرت مضيق باب المندب، واقامت في المناطق المقابلة لليمن على الساحل المواجه من القارة الافريقية واستوطنت بها   )

أفرقة قدامى العرب   :

ومن المرجح انه حدث قبيل ميلاد المسيح عليه السلام . وقد تمكن هؤلاء العرب من تأسيس مستعمرة تجارية على الشاطئ الأريتيري ، ولم يلبثوا ان مدوا نفوذهم الى الهضبة الاثيوبية على حساب شعوب الكوش ، ثم بمضي الزمن تأفرق  هؤلاء  المهاجرين واخذوا ينثرون بذور الحضارة السامية في هذه البلاد .

وحينما بزغت شمس القرن الاول للميلاد نجح هؤلاء العرب الساميون في تأسيس مملكة أكسوم.

دخول المسيحية الحبشة :

ودخلت المسيحية الحبشة عن طريق بعض المبشرين وذلك عام 320م ، ثم اصبحت بعد ان اعتنق ملكها (( عزانا )) المسيحية دينا رسميا للملكة  . 

ورد في كتاب ( المثلث العفري في القرن الافريقي عبر العصور التاريخية ) :

وكانت اسم الحبشة تشمل بلاد الصومال وزيلغ والجالاه حتى ارتريا) ، كما تّذكر  ان اسم الحبشة كان يطلقه سكان الجزيرة العربية على المنطقة عموما بما فيها اريتريا والصومال.

 أهم انهار الحبشة :

هضبة الحبشة

هو النيل الازرق الذي يأتي من بحيرة تسانا وتبلغ مساحة هذه البحيرة (3630)كيلو متر مربع ويتضاعف حجمها خلال موسم الامطار .

 ثم نهر عطبرة الذي ينبع من اواسط الهضبة ويمر بأريتريا حتى يصل حدود السودان .

 ومن الانهار الاخرى في الحبشة نهر الجب(جوبا )ونهر ويبي شيبلي ، ونهر بركة ، ونهر أواش ، بالإضافة الى عدد لا حصر له من القنوات والأخوار التي تمتلئ بالمياه المحملة بالطمي الكثيف.

وقد قُدرت مساحة الارض الخصبة الصالحة للزراعة والانتاج   في الحبشة بحوالي(80) ثمانين مليون فدان   .

فهي ارض خير ونماء ، لكن أهلها فقراء يعانون الفقر والجوع والمرض، لأنهم يفتقدون للملك العادل الذي لا يُظلم عنده أحد.. يحتاجون الى النجاشي من جديد..!!

بهذا نختم  الحلقة (27) ونلتقي معكم الاسبوع القادم بإذن الله في الحلقة  (28) مع سيرة النجاشي ومواقفه تجاه الدعوة الاسلامية.  

مع ملاحظة  احتفاظي بالمراجع لعدم امكانية نشرها في الجريدة في الوقت الحاضر..

اسأل الله ان يكتب لنا ولكم الاجر ” صدقة جارية” عن نشر سيرة وفقه أعظم نبي ورسول صلى الله عليه وسلم وان يجمعنا به صحبة في الفردوس الاعلى من الجنة

   

د. محمد أحمد النجار
الأحد 25 جمادى الاولى 1439هـ
الموافق 11 فبراير 2018

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.