السيرة النبوية ..(3) جيش أبرهة في مكة ليهدم الكعبة
بقلم : الدكتور محمد النجار
استعرضنا في الحلقة الثانية الامبراطوريات التي كانت سائدة في العالم قبل الاسلام(فارس والروم واليونان) وما آلت اليه من فساد في الفطرة الانسانية وسيطرة المادية على فلسلفات تلك الحضارات. كما تحدثنا عن أحوال جزيرة العرب قبل الاسلام ، وحكمة الله في اختيار العرب لحمل الرسالة الإلهية الاخيرة الى البشرية .
ونبدأ الآن في الحلقة الثالثة تشكل النقاط التالية :
1-علاقة دعوة النبي بالدعوات السماوية السابقة
2-ما تتفق فيه الرسالات السماوية وما تختلف
3-كعبة جديدة في اليمن ليحج اليها العرب.
4-جيش ابرهة النصراني في مكة ليهدم الكعبة والبيت الحرام.
5-وتتابع الاحداث
علاقة دعوة النبي بالرسالات والدعوات السابقة :
لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يفاضل بين دعوته وبين دعوة الانبياء السابقين ،بل يؤكد على العلاقة التكاملية التي تربط رسالته ودعوته بكافة دعوات ورسالات الانبياء السابقين لأنهم جميعا رُسُل الله وانبياءه ،يقول النبي صلى الله عليه وسلم :
“إِنَّ مَثَلِي وَمَثَلَ الأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِي كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى بَيْتًا، فَأَحْسَنَهُ وَأَجْمَلَهُ إِلاَّ مَوْضِعَ لَبِنَةٍ مِنْ زَاوِيَةٍ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَطُوفُونَ بِهِ وَيَعْجَبُونَ لَهُ، وَيَقُولُونَ: هَلاَّ وُضِعَتْ هَذِهِ اللَّبِنَةُ. قَالَ: فَأَنَا اللَّبِنَةُ، وَأَنَا خَاتِمُ النَّبِيِّينَ”..
وكان صلى الله عليه وسلم يحمل التقدير لكل الأنبياء، ويقول :
- “صلوا على أنبياء الله ورسله، فإن الله بعثهم كما بعثني.” والحديث صححه الألباني رحمه الله في الصحيحة وحسنه في صحيح الجامع.
- “الأنبياء أخوة لعلاّت أمهاتهم شتى ودينهم واحد”. ورد في صحيح البخاري ومسند الإمام أحمد
- ” أنا أولى الناسِ بِعِيسَى ابنِ مريمَ في الدنيا و الآخرةِ ، ليس بَيْنِي و بينَهُ نَبِيٌّ ، و الأنْبياءُ أوْلادُ عَلَّاتٍ ؛ أُمَّهاتُهُمْ شَتَّى ، و دِينُهُمْ واحِدٌ “
- وفي الصحيحين عن رحلة الاسراء والمعراج عندما فُرضت الصلاة خمسين صلاة يقول النبي :
“فنزلت إلى موسى عليه السلام، فقال: ما فرض ربك على أمتك؟ قلت: خمسين صلاة. قال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف فإن أمتك لا يطيقون ذلك فإني قد بلوت بني إسرائيل وخبرتهم”.
وقد ختم الله الرسالات برسالة محمد صلى الله عليه وسلم ، وجعل رسالته الرسالة الاخيرة الى البشرية اجمع ،ونسخ بشريعته كافة الشرائع السابقة ،وجعلها شريعة واحدة باقية إلى يوم القيامة و لا يقبل الله من أحد بعد مبعثه ديناً غير الإسلام ، قال تعالى: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [آل عمران:85].
وقد انزل الله على موسى التوراة لبني اسرائيل وكانت الحاجة تقتضي بعض الشدة و فيها تفصيل لكل شئ وتقوم على العزائم دون الرخص ، و أنزل على عيسى عليه السلام الإنجيل فيه هدى ونور بشريعة اسهل وايسر ، وإباحة لبعض ما حرم في التوراة ، يقول الله تعاليى ” ومصدقا لما بين يدي من التوراة ولأحل لكم بعض الذي حُرم عليكم ” الاية 3-50 العمران.
وقد نسخ الله ذلك كله بالقرآن الكريم، وختم الرسالات برسالة محمد صلى الله عليه وسلم.
وما يدين به الآن اليهود و النصارى محرف ومبدل بشهادة القرآن ، وبشهادة بعضهم على بعض ، ولو لم يحرفوا ويبدلوا لكان جليا ولزاماً عليهم جميعا أن يؤمنوا بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم لأن أنبيائهم أمروهم باتباع محمد صلى الله عليه وسلم، ونصت على ذلك كتبهم الخالية من التحريف، كما قال تعالى: (وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرائيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ) [الصف:6].
يقول المفكر الفرنسي موريس بوكاي :
” ان القران هو نص الوحي المنزل من الله على محمد عن طريق جبريل، لأنه كُتب في الحال. ثم حفظه المؤمنون عن ظهر غيب ، وكانوا يرددونه اثناء صلواتهم وبخاصة طيلة شهر رمضان ، وقد رتب محمد آياته في سور ،وجُمعت مباشرة عقب وفاته في كتاب واحد في عهد الخليفة عثمان(23 – 35 هـ ) وهو الكتاب الذي بين ايدينا ،خلافا للوحي المسيحي الذي أنبنى على شهادات انسانية متعددة وغير مباشرة قابلة للتبديل والتحريف،و لا نملك أية شهادة من شاهد عاين حياة المسيح، خلافاً لما يتصوره كثير من المسيحين “.
ما تتفق فيه الرسالات السماوية وما تختلف :
ويمكن تلخيص دعوة الانبياء جميعا في أن كل دعوة منها تقوم على اساسين :
1.الأساس الاول : العقيدة
إن امور العقيدة تعتمد على الإخبار من الله ، ولن يختلف الخبر مابين مُخبر وآخر ، وليس من المعقول أن يُبعث احد الانبياء ليخبر الناس بأن الله ثالث ثلاثة (تعالى الله عما يقولون) ثم يُبعث نبي بعده ليبلغهم بأن الله واحد لا شريك له ،ويكون كل من النبين الاثنين صادقا . ان كافة الدعوات السماوية تتفق في العقيدة المُرسل بها كافة الانبياء والرسل وهي الدعوة الى وحدانية الله سبحانه والدينونة له وحده .ولا نتصور ان تختلف دعوات الانبياء الصادقين في شأن العقيدة، يقول الله تعالى: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) النحل:36
2.الاساس الثاني : الشريعة
لا تعتمد الشريعة على الإخبار مثل العقيدة ، وانما تعتمد على انشاء التشريع والأحكام التي تنظم حياة الفرد والجماعة والمجتمع ، وتقوم على أساس ما تقتضيه مصالح العباد في دنياهم وآخرتهم. وتختلف قضايا كل مجتمع عن قضايا المجتمعات الأخرى ، ولأن كل نبي يأتي لعلاج قضايا وعلل المجتمع الذي أرسله الله اليه وبشريعة تعالج تلك تلك القضايا والعلل.
فأرسل الله شعيبا لأهل مدين بشريعة تعالج مشاكل الاقتصاد و الكيل والميزان التي يعانيها ذلك المجتمع، وارسل لوطا لقومه ليعالج المشكل الاخلاقية التي تفشت في ذلك المجتمع ..وهكذا ..
قال تعالى: (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) [المائدة:48
ونخلص من هذا البيان انه لا توجد أديان سماوية متعددة ومختلفة ، وانما هو دين واحد منذ آدم عليه السلام وهو دين الاسلام لكن بشرائع سماوية متعددة ينسخ اللاحق منها السابق الى أن انزل الله الشريعة السماوية الاخيرة وختم بها الرسالات السابقة وهي رسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والرسل اجمعين.
كعبة جديدة للحج في اليمن:
استولى ملك الحبشة عل ارض اليمن،واسند ولايتها لحاكم حبشي اسمه “ابرهة الأشرم” الذي أخضع بجيشه القوي اليمن واهله تحت امرته. و لاحظ ابرهة أن كثيرا من اهل اليمن يذهبون سنويا الى مكة ليحجوا الى البيت الحرام والكعبة المشرفة واداء المناسك ، فأراد ان يبني بيتا عظيما مثل الكعبة ليصرف به الناس عن الكعبة وبيت الله الحرام ولنشر النصرانية في جزيرة العرب والقضاء على قوة قريش السياسية والاقتصادية، فاستدعى المهندسين والبنائين وبنى كنيسة عظيمة في صنعاء وبالغ في تشييدها وزخرفتها حتى اصبحت بناء عظيما .
واطلق ابرهة على هذه الكنيسة اسم ( القُليس) وأمر جنده بدعوة العرب للحج الى هذه الكنيسة (القليس) بدلا من الذهاب الى مكة وعناء السفر الى الكعبة ، لكن العرب استهزأوا بإبرهة والقليس ، وقالوا كيف يتركون “بيت الله الحرام ” الذي بناه ابوهم ابراهيم عليه السلام منذ الاف السنين ويحجوا الى كنيسة ابرهة؟
وقد بلغ باستهزائهم بهذه الكنيسة(القليس) فقام أحد هؤلاء العرب بالتسلل خفية الى القليس وأحدث فيه (تبول وتبرز ) ولطخه بالنجاسة والقذارة ، إظهاراً لعدم تقديسه .
ولما علم ابرهة غضب غضبا شديدا ، وأقسم ان يكون رد فعله أن يهدم الكعبة والبيت الحرام ويتخلص منهما.
ابرهة في طريقه لهدم الكعبة عام 571ميلادي:
أصدر إبرهة الاوامر لتجهيز الجيش بكافة قوته واسلحته للمسير الى مكة ، وضم حشدا كبيرا من الفيلة الضخمة والابل والخيل. واتجه الى مكة ،وكان اثناء طريقه يغير ويهاجم القبائل ويستولى على اموالهم ليستعين بها في حملته الى مكة،وكانت القبائل تفر لعدم قدرتها على مقاومة جيش ابرهة بل بعضهم كانوا يعرضون عليه المساعدة وامداده بما يريد إتقاء شره.
تشاور اهل مكة ماذا يفعلون امام هذا الجيش الجرار وتلك الافيال الضخمة، وهم لا يملكون جيشا منظما وليسوا مدربين تدريبا يمكنهم من مقاومة جيش ابرهة؟؟ وقالوا : ان هذا بيت الله الحرام ، وان الله لن يتركه يتهدم بل ستتدخل العناية الالهية لإنقاذه في الوقت المناسب. وبعد مفاوضات ابرهة مع عبدالمطلب بخصوص أبل له استولى عليها جنود ابرهة ، رجع عبدالمطلب وأمر أهل مكة ان يتفرقوا في الشعاب والجبال ليأمنوا على انفسهم من خطر جيش ابرهة ،وان يتركوا أمر البيت الحرام والكعبة لله وحده.
ووقف عبد المطلب حزينا على باب الكعبة وأمسك بحلقته وأخذ يدعو قائلاً :
لاهُمّ إن المرء يمنع رحله فامنع حلالك
لا يغلبن صليبهم ومحالُهم غدواً محالك
إن كنتَ تاركهم وقبلتنا فأمرٌ ما بدالك
ومع طلوع النهار دخل ابرهة وجيشه مكة ولم يجدوا في الطريق الكعبة من يتصدى لهم ، فأغراهم المسير حتى اقتربوا من بيت الله الحرام والكعبة المشرفة ، وفجأة برك الفيل الأكبر(محمود) على الارض ورفض ان يتحرك تجاه الكعبة وحاول جند ابرهة ان يستنهضوه ناحية الكعبة وعجزوا ، فلما أحالوه الى عكس مكة نهض بسرعة واسرع الخطى ، وحاول الجند مرة اخرى استنهاضه تجاه الكعبة دون جدوى ، وبينما هم مشغولون بالفيل إذا بطيور صغيرة تأتي مسرعة وتلقى عليهم بحجارة صغيرة ،وكأنها مسلطة كل واحدة على جندي فيسقط صريعا ميتا ، فدب الفزع والرعب في قلوب جنود ابرهة وساد الذعر في الجيش كله ففروا هاربين بعد ان قُتل منهم الكثير .
وأصيب ابرهة اصابة فادحة وحمله الجند وهو يصرخ من الالم وتتساقط أنامله ( أُنملةً أنملةً)كلما سقطت أنملة سقط منها قيحا ودما ،ورجعوا به الى صنعاء وهو مثل الفرخ الطائر محطما ذليلا كسيرا يجر اذيال الهزيمة والخزي العار .
ونزلت فيهم آيات القرآن الكريم ..(ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل……)
ورجع اهل مكة الى بيوتهم وكعبتهم وبيت الله الحرام وقد استشعروا نعمة الله عليهم بعد إذ انجاهم الله من ابرهة وجيشه الكافر.
وقد اتخذ العرب من هذا الحادث العظيم والذي يعتبر من اعجب واعظم الحوادث الذي رآها العرب في حياتهم تاريخا يؤرخون به ..
وقد حدث ما هو اعظم من تلك الحادثة ، حدث عظيم ادى الى تغيير وجه الدنيا بأسرها وهو ولادة النبي محمد صلى الله عليه وسلم عام 571ميلادي في عام الفيل .
انتهت الحلقة الثالثة ونلتقي في الحلقة الرابعة بإذن الله
استودعكم في رعاية الله