الصراط المستقيم

السيرة النبوية (45)الهجرة (3):أبو جهل يرفض ترويع بنات النبى

بقلم الدكتور/ محمد النجار

لم يسبق النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بالهجرة الى المدينة لينجو بنفسه ويترك أصحابه في مكة يتلقون ألوان التعذيب والألم ، بل أمرهم بالهجرة قبله ، و يسبقونه الى المدينة حتى يطمأن على مغادرتهم مكة ووصولهم الى مهجرهم ووطنهم الجديد بالمدينة التى اختارها الله لهم .
وقد أثني الله على المهاجرين في قوله تعالى :
((وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً ۖ وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ ۚ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ((42) سورة النحل
واطمأن النبي صلى الله عليه وسلم على وصولهم المدينة ، وَحُسْنِ استقبال إخوانهم الأنصار لهم .
ولم يتبق في مكة سوى :
١-رسول الله .. صلى الله عليه وسلم
٢-أبو بكر بن أبي قحافة – الصديق
٣-علي بن ابي طالب
٤-بعض المحبوسين عن الهجرة .
وكان أبو بكر كثيرا ما يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة ، فيقول له النبي صلى الله عليه وسلم :
((لا تعجل لعل الله يجعل لك صاحبا )) فيطمع أبو بكر أن يكون هو الصاحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك الهجرة .
وينتظر النبي صلى الله عليه وسلم الإذن من ربه بالهجرة .

خطورة هجرة النبي وأصحابه على قريش :

عندما خرج المسلمون بأهليهم الى المدينة أدركت قريش أن أهل المدينة قد بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنه سيهاجر اليهم ، وقد أفزعهم ذلك إذ أدركوا أن النبي وأصحابه يهاجرون الى دار منعة يتمتع أهلها بالقوة والبأس ، وأن التحام الأوس والخزرج معه صلى الله عليه وسلم سوف يزداد به قوة يهدد بها قريش وزعامتها في الجزيرة العربية !!
و ان هجرته واصحابه معناها بداية أفول نجم قريش الديني والاجتماعي والاقتصادي ، وبداية ازدهار نظام جديد عقدي واجتماعي واقتصادي وتجاري، ولذا لا غرو ان تسعى قريش ورجالاتها لصد هذا التيار الجارف من الهجرة الى يثرب.

إجتماع مجلس حرب كفار قريش في دار الندوة :
12سبتمبر سنة622

عقد كفار قريش اجتماعا في “دار الندوة ” وهي دار قصي بن كلاب التي كانت قريش لا تقضي أمرا إلا فيها ، وذلك في يوم الخميس 26من شهر صفر سنة (14)من البعثة النبوية الشريفة (الموافق 12سبتمبر سنة 622ميلادي) لمناقشة كيفية مواجهة النبي صلى الله عليه وسلم ومنعه من الهجرة والتخلص منه ..

مشاركة إبليس إجتماع قريش :

بينما يجتمع مجلس حرب كفار قريش بحضور صناديد الكفر للتآمر والتخلص من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، دخل عليهم إبليس في زي أعرابي من نجد ، وجلس يستمع قولهم : نثبته !والتثبيت ضد الحركة ، السكون ثبات ، والحركة ضد الثبات .
فكان الرأي الأول : أن يثبتوه ويقيدوا حركته (بما نطلق عليه في عالم اليوم تحديد اقامته في بيته وعدم السماح له بالتواصل مع المجتمع) أو بسجنه رسميا ، (وكان هذا رأي أبو البختري بن هشام ) و لم يتم الموافقة علي هذا الرأي بحجة أنهم لو قيدوه أو سجنوه ، فسيقوم أنصاره بالوثوب عليهم وانتزاعه من بين ايديهم وإطلاق سراحه و إخراجه من السجن .
وكان الرأي الثاني : هو إخراجه من بين أظهرهم من مكة واستبعاده عنها وعن أهلها ، فَيَكُفُّ شره عنهم ويتخلصوا من دعوته في مكة ، وتم رفض هذا الرأي ، لأنه سوف يتمكن من الاستقواء بالقوم الذين يؤوه وناصروه ويشكل خطراً أكبر عليهم.
وكان الرأي الثالث : هو التخلص النهائي منه بالقتل! إلا أن عاقبة قتله ستكون وخيمة حيث ستثأر قبيلته له وستشتعل حرب لا تنتهي في قريش.

رأي الطاغية أبي جهل :

فقال ابو جهل بن هشام : والله إن لي لرأيا آخر ، وهو أن نأخذ من كل قبيلة شابا فتى جلدا نسبيا وسيطا فينا ، ونعطي كل فتى منهم سيفا صارماً ، ثم يعمدوا إليه فيضربوه بها ضربة رجل واحد فيقتلوه فنستريح منه ، فإنهم إذا فعلوا ذلك تفرق دمه في القبائل جميعا ،فلا يقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعا ، فرضوا منا بالعقل فعقلناه لهم(أي الدية).

الشيطان يمدح أبا جهل :

فقال الشيخ النجدي(الشيطان) : القول ما قال الرجل ، هذا الرأي ، لا أرى غيره ، فتفرق القوم على ذلك وهم مجمعون له .
يقول الله سبحانه وتعالى عن هذه المؤامرة التي حاكتها قريش :
((وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يُخرجوك ،ويمكرون ويمكر الله ، والله خير الماكرين))الانفال30

جبريل : لا تَبِتْ هذه الليلة على فراشك !

وما أنفض الاجتماع الشرير في دار الندوة والذي تقرر فيه قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم بمشاركة شاب من كل قبيلة حتى يتفرق دمه بين القبائل ، إلا ونزل جبريل عليه السلام على النبي وقال له : لا تَبِتْ هذه الليلة على فراشك الذي كنت تبيت عليه .
وكان هذا الأمر من جبريل بعدم مبيت النبي في فراشه بمثابة الإذن من الله للنبي صلى الله عليه وسلم بالهجرة في تلك الليلة .

أول فدائي في الاسلام :

وطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم من علي بن أبي طالب أن يبيت تلك الليلة على فراشه ، وقال له :
((نَمْ على فراشي ، وتَسَجَّ – أي تغطَّ بالثوب جسدك ووجهك- بِبُرْدي هذا الحضرمي الأخضر ، فنم فيه ، فإنه لن يخلص إليك شئ تكرهه منهم )) .

وكان هذا عملا فدائيا يتعرض على بن ابي طالب من خلاله للخطر ، خاصة مع هؤلاء الشباب الذين جاءوا لينقضوا على النبي بقوة وبطش للخلاص منه وهو في فراشه .

أمانة النبي ورد الودائع.. رغم تآمر قريش لقتله :

ورغم تآمر قريش ومكائدهم وغدرهم لقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أنه أوكل علياً بن ابي طالب في مكة ليؤدي عن رسول الله الودائع التي كانت عنده للناس الذين كان يودعون عنده نفائس أموالهم التي يخافون عليها ، لما يعلمون عنه من صدق امانته التي كان معروفا بها بأنه الصادق الأمين .
فكانتا عنده يرعاهما لميعادهما .

سيوف الشر تتربص بباب بيت النبي :

وتجمع الشباب الأقوياء الذين تم اختيارهم من قبائل قريش امام باب بيت النبي صلى الله عليه وسلم ،ينتظرون خروجه من البيت لينقضوا عليه حسب الخطة التي تبنتها شياطين قريش مع ابليس.

وقد ورد فى السيرة النبوية في ضوء القرآن :

فلما كانت عتمة الليل اجتمع فتيان من قريش على بابه صلى الله عليه وسلم ، وبيدهم السيوف المرهفة، ويتطاير من عيونهم شرر الغدر والمكيدة، ينام في برده هذا إذا نام، فسمع عليّ لما أشار به رسول الله وأطاع طيّبة بذلك نفسه، وبذلك كان أول فدائي شاب في الإسلام، فقد وقى رسول الله بنفسه، وهو يعلم أنه على قيد أذرع من سيوف المشركين ورماحهم، وكان هذا التدبير المحكم الذي أشار به جبريل عليه السلام مما لبّس الأمر على المشركين المتربصين للنبي، فكانوا إذا نظروا من خلل الباب وجدوا النائم فيظنونه النبي، بينما هو الفتى الشجاع علي رضي الله عنه.

خروج النبي بعد أن نثر على رؤوسهم التراب :

خرج النبي صلى الله عليه وسلم وتناول حفنة من التراب ونثرها على رؤوس الشباب المتربص على باب بيته، وهو يتلو ((وجعلنا من بين ايديهم سدا ومن خلفهم سدا ، فأغشيناهم ، فهم لا يبصرون))يس 9 وأنزل الله ((وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ، ويمكرون ويمكر الله والله خيرا الماكرين)) الانفال30
ثم انصرف النبي صلى الله عليه وسلم الى حيث أراد أن يذهب وهم نائمون ، ثم جاءهم من أخبرهم بأن محمدا قد خرج عليهم. وكانوا كلما نظروا وجدوا علياً على الفراش مُتَسَجِّياً بِبُرِد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : ((والله إن هذا لمحمد نائما عليه بُرْدُهُ ، فلما أصبحوا قام علي بن ابي طالب عن الفراش ، فقالوا : والله لقد صَدَقَنا الذي حدثنا )) .

لماذا لم يتم اقتحام بيت النبي رغم قصر جدرانه؟؟
مبادئ الجاهلية ترفض اقتحام البيوت وترويع النساء والأطفال.

رغم ان هؤلاء الشباب الاقوياء الذين جهزهم أبو جهل لقتل النبي صلى الله عليه وسلم ، ورغم ان جدران بيت النبي كانت قصيرة يسهل القفز عليها إلا أن هؤلاء القتلة رفضوا اقتحام بيت النبي صلى الله عليه وسلم تبعا لمبادئهم في الجاهلية ورفضهم ترويع بنات النبي صلى الله عليه وسلم وحتى لا تكون سُبَّة في حق قريش ، وتعايرهم بها العرب : بأن قريشا أرعبت وروعت بنات محمد؟؟
ما أعجب هذه الجاهلية التي كانت تٌنكر القفز على بيوت الناس حتى لو كانوا أشد اعدائهم ، و ترفض ترويع النساء والاطفال والأخذ بجريرة الآخرين .. وذلك اذا ما قارناها بما يحدث في عالمنا اليوم في بعض الأنظمة باقتحام البيوت وترويع النساء والاطفال وتعذيبهم دون جريمة أو ذنب إلا لاقترانهم بأحد مطلوب حتى لو كان قريبا لهم من بعيد أو صديقا ..
لقد كانت جاهلية لكن لديها مبادئ وقيم واخلاق تحترم البيوت والأعراض ولا تقتحم الحرمات ولا تأخذ المرء بجريرة غيره.
وقد ورد في سيرة ابن هشام وغيرها من المراجع :
ذكر بعض اهل التفسير السبب المانع لهم من الاقتحام عليه في الدار مع قِصَرِ الجدار ، وأنهم انما جاءوا لقتله ، فذكر في الخبر أنهم هموا بالولوج عليه ، فصاحت امرأة من الدار ، فقال بعضهم لبعض : والله إنها للسبة في العرب أن يُتَحَدِثَ عنا أنا تسورنا الحيطان على بنات العم ، وهتكنا ستر حرمتنا ، فهذا هو الذي أقامهم بالباب حتى أصبحوا ينتظرون خروجه ، ثم طمست أبصارهم عنه حين خرج .
وفي قراءة الآيات الأول من سورة يس ، من الفقه التذكرة بقراءة الخائفين لها اقتداء به عليه السلام ، فقد روى الحارث بن أبي أسامة في مسنده عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذكره فضل يس أنها إن قرأها خائف ، أو جائع شبع أو عار كسى ، أو عاطش سقي حتى ذكر خلالا كثيرة .

زيارة النبي المفاجئة لأبي بكر :

جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم الى أبي بكر نصف النهار – في ساعة لم يكن يأتيه فيها – متقنعا ، فقال : (( أخرج من عندك)) فقال : يا رسول الله إنما هما ابنتاي ، وفي الجامع الصحيح للبخاري ” انما هم أهلك – (“وكان أبو بكر قد أنكح عائشة من رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ذلك “) – فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((إن الله قد إذن لي في الخروج )) .
فقال أبوبكر : الصحبة يا رسول الله .
قال رسول الله : ((الصُّحبة)) .
فبكى ابو بكر من الفرح .
وقالت السيدة عائشة التي كانت تروي الحديث : فو الله ما شعرت قط قبل ذلك اليوم أن أحدا يبكي من الفرح حتى رأيت أبا بكر يبكي يومئذ .
ثم قال أبوبكر لرسول الله : يا نبي الله ، إن هاتين رحلتان قد كنت اعددتهما لهذا ، فخذ – بأبي انت وأمي – احدى راحلتيَّ هاتين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ((بالثمن)).
ثم استأجرا ((عبدالله بن أريقط ))، وكان مشركا ، يدلهما على الطريق ، فدفعا اليه راحلتيهما.

لماذا رفض النبي راحلة أبي بكر إلا بثمنها؟

سئُل بعض اهل العلم ، لماذا لم يقبل النبي صلى الله عليه وسلم بعير أبي بكر إلا بثمنها ، وقد انفق ابو بكر عليه من ماله ماهو اكثر من هذا فقبل ، وقد قال عليه السلام : ليس من أحد أمن على في أهل ومال من أبي بكر ، وقد دفع اليه حين بنى بعائشة ثنتي عشرة أوقية ونشا ، فلم يأب من ذلك فقال المسئول: انما ذلك لتكون هجرته الى الله بنفسه وماله رغبة منه عليه السلام في استكمال فضل الهجرة والجهاد على أتم احوالهما ، وهو قول حسن حدثني بهذا بعض أصحابنا عن الفقيد الزاهد أبي الحسن بن اللوان رحمه الله .

إنتقال النبي من مكة إلى غار ثور !!

كانت الهجرة النبوية سرا خافيا على قريش والناس اجمعين ، فلم يعلم بخروجه صلى الله عليه وسلم حين خرج سوى علي بن ابن طالب ، وأبي بكر الصديق وآل أبي بكر .
خرج النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه من بيت أبي بكر ماشيين على أقدامهما من خوخة في ظهر دار أبي بكر ليلاً ، وذلك كتمانا لتحركاتهما وتجنبا لمراقبة عيون قريش المرصودة في كل مكان.
وكانا قد استأجرا عبدالله بن أريقط الليثي ، وكان هاديا ماهرا – وكان على دين قومه – وَأمِنَاه على ذلك ، وسلما إليه راحلتيهما ، ووعداه غار ثور بعد ثلاث .
ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر الى غار ثور ،

إكتشاف قريش خروج النبي من بيته :

بعد أن خرج النبي صلى الله عليه وسلم من بيته ، جاء رجل ، فرأي هؤلاء الشباب امام بيت النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال لهم: ما تنتظرون ؟
قالوا : محمدا !!
قال : خبتم وخسرتم، قد والله مرَّ بكم ، وذرَّ على رؤوسكم التراب .
قالوا : والله ما أبصرناه ، وقاموا ينفضون التراب عن رؤوسهم.
فلما أصبحوا : قام على بن ابي طالب رضي الله عنه عن الفراش ، فسألوه عن محمد ؟ فقال : لا علم لي به .

أبو جهل يبحث عن النبي في بيت أبي بكر :
قال ابن اسحاق :

قالت أسماء بنت ابي بكر : لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبوبكر رضي الله عنه ، أتانا نفر من قريش، فيهم أبو جهل بن هشام ، فوقفوا على باب أبي بكر ، فخرجت إليهم ، فقالوا : أين أبوك يابنت أبي بكر ؟ قلت: لا أدري والله أين أبي. فرفع أبوجهل يده ، وكان فاحشا خبيثا ، فلطم خدي لطمة طرح منها : قِرْطِي .

مائةُ ناقةِ لمن يُلقي القبض على النبي :

وكانت قريش قد رصدت لمن يأتي بالنبي صلى الله عليه وسلم ، دية كبيرة قدرها مائة ناقةٍ لمن يعثر على النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذه تدل على خوف قريش من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم ومغبة وصوله الى يثرب ..
وسنتعرض لها في الحلقة القادمة بإذن الله ..

الدعم اللوجستي لآل أبي بكر في الهجرة الى المدينة :

احتمل ابو بكر ماله معه ، وخطط لرحلة الهجرة ، كلف ابنه عبدالله أن يتسمع ما تقوله قريش نهاراً ، ثم يأتيهما بالخبر في المساء ، وكلف عامله عامر بن فُهيرة ان يرعى الغنم في النهار ويمسح آثار عبدالله بن أبي بكر ، كما انه يراقب الطريق ، ويحلب الغنم ويحمل اللبن للنبي وأبي بكر . وكلف ابنته اسماء بأن تصلح الطعام و تأتي به اليهما في المساء .

لماذا سُميت أسماء بنت أبي بكر بذات النطاقين؟

كانت اسماء بنت ابي بكر رضي الله عنها حامل وتتحمل مشاق الحمل والحرارة ، فتأتي الى النبي وأبي بكر بسُفرتهما ، فأتتهما ونسيت أن تجعل لسفرتهما عصاما (العصام هو الحبل أو شبهه يُشد على فم المزادة ونحوها ليحفظ باقيها أو تُعلق منها في وتد وغيره)، فلما أرادت أن تعلق السفرة شقَّت نطاقها نصفين ، فعلقت السفرة بواحد ، وانتطقت بالآخر ، ومن هنا تم تسميتها بذات النطاقين..

ثلاث ليال في غار ثور :

غادر النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه بيت أبي بكر في مكة قبل طلوع الفجر ليلة 27صفر ، وذلك حينما هدأت الحركة ، وَ خَلَدَ الناسُ الى النوم والسكون ، بالإضافة إلى انشغال قيادة طغاة قريش فيما كانوا يعتقدون ان النبي صلى الله عليه وسلم يبيت في بيته ، فظلوا أمام البيت وكرسوا كل جهودهم الأمنية عند البيت ، مما جعل وصول النبي وصاحبه الى غار ثور بسهولة .
يقول ابن الأثير : فأقاما في الغار ثلاثا .
كان أبو بكر مُحبا لرسول الله أكثر من حبه لنفسه ، ومستعدا لتعريض نفسه لأي خطر يدفع به الأذى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويفديه بنفسه وماله وبكل ما يملك وبإخلاص شديد رضي الله عنه . ولذا دخل الغار قبل رسول الله ، فلمس الغار في أبعاده الداخلية وأنحاءه الجانبية ليتحقق عما إذا كان فيه حَيَّة أو سَبُع حتى يقي رسول الله أي خطر في الغار.
وهذه الرواية ترجح خروجهما من دار أبي بكر كان ليلا ، لا في الهاجرة لقرب المسافة بين مكة وجبل ثور .

المشركون امام غار ثور والنبي داخله :

خرج طغاة قريش يبحثون عن النبي وأرسلوا جواسيسهم وجنودهم في كل اتجاه ، وقد اقتفوا أثره ، وتتبعوه ، حتى وصل بهم الامر الى جبل ثور الذي بغاره الصاحبان ، ولكن آية الله تعالى أ، جعلت العنكبوت ينسج نسيجه ، وكأنه من سنين ، وأن حمامتين عششتا على بابه ، فكانت آية حسية من خوارق العادات ، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتحدث لإثبات نبوته إلا بالقرآن الكريم ، لأنه المعجزة الكبرى الباقية الى يوم الدين . وهو حجة على الخليقة في كل الاجيال ، ولكل الاجناس .

يا أبا بكر .. ما ظنك باثنين الله ثالثهما :

انتهى الأثر بالطغاة الى وقوفهم امامه غار ثور ، وما إن رأوا نسج العنكبوت ، لم يدخل احد ،، لقد صرف الله انظارهم وأزاغ ابصارهم عن رؤية النبي محمد وهو داخل الغار آمن مطمئن قائما يصلي . فلما أتم صلاته قال ابو بكر خائفا على النبي عليه الصلاة والسلام : “يارسول الله لو نظر احدهم تحت قدميه لرآنا “..
ويرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم : “يا أبا بكر .. ماظنك باثنين الله ثالهما ”
عن أنس بن مالك رضي الله عنه ، أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه ، قال : نظرت إلى أقدام المشركين على رءوسنا ونحن في الغار ، فقلت : يا رسول الله ! لو أن أحدهم نظر إلى قدمه أبصرنا ، فقال : ( يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما ؟ . متفق عليه .
فنزل قوله تعالى :
(( إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا(( التوبة40
ومكثا في الغار ثلاثة أيام تمويها على قريش ، وهدأ طلب قريش عنهما ،فأتاهما عبدالله بن أريقط ببعيريهما وبعير له ، واتتهما اسماء بنت أبي بكر بسفرتهما (أي زادهما) ونسيت ان تأتي بما تعلق السفرة به ، فشقت نطاقها نصفين، وعلقت بأحدهما ، وسميت لذلك بذات النطاقين.
ركب النبي صلى الله عليه وسلم احدى الراحلتين بعد أن دفع ثمنها الى أبي بكر وكان اسمها ((الجدعاء على رواية ابن اسحاق ، والقصواء على رواية الواقدي)) ، وركب ابو بكر الراحلة الثانية وخلفه عامله عامر بن فهيرة.

قال عمر عن تلك الليلة :

والذي نفسي بيده لتلك الليلة خير من آل عمر .
الركبُ النبوي في طريقِ الهجرة :
كان الركب النبوي في طريق الهجرة الى المدينة يتكون من أربعة ، هم :
١-رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم .
٢-أبو بكر ابن أبي قحافة – الصديق رضي الله عنه .
٣-عامر بن فُهَيْرة – مولى أبي بكر – وكان مسلما ، وكان رديف أبي بكر على الراحلة .
٤-عبدالله بن أريقط ، ولم يكن أذ ذاك مسلما ، وهو دليل الرحلة

دروسٌ مستفادة من الإستعداد والتجهيز قبيل إنطلاق الهجرة :

١-مغادرة النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه بيت أبي بكر في مكة قبل طلوع الفجر ليلة 27صفر ، وهذا كان وقتا مناسبا حيث تهدأ فيه الحركة ، ويخلد الناس الى النوم في حالة سكون ، فيقل احتمال كشف خروجهما . بالإضافة ان قيادة طغاة قريش كانوا يعتقدون ان النبي صلى الله عليه وسلم يبيت في بيته ، فظلوا أمام البيت وكرسوا كل جهودهم الأمنية عند البيت ، وضاعت على قريش فرصة القبض على النبي بسهولة أمام بيته .

٢-خروج النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر مشيا على الاقدام من بيت ابي بكر حتى وصولهما ودخولهما الغار ، وكان النبي يمشي حافيا على اطراف اصابعه حتى حفيت رجلاه ، فحمله أبو بكر ، حتى أتى به الغار ، وهذا يوضح مايلي :
(١)السير على الاقدام يجعل اثرهم اقل وضوحا من ركوب الدواب التي يمكن تتبع أثرها بسهولة اكثر.
(٢)ركوب الدواب ليلا يصدر أصواتا وضجيجا بينما الحركة على الاقدام لا تصدر هذا الضجيج مما يقلل درجة انكشاف الحركة خاصة إذا كان السير على اطراف الاصابع كما كان يفعل النبي صلى الله عليه وسلم.

٣-التمويه على طغاة قريش بأن النبي صلى الله عليه وسلم لازال نائما في فراشه ، مما جعلهم يركزون جهدهم أمام بيت النبي وعدم البحث عنه في أي مكان آخر ، بينما كان علي بن أبي طالب يبيت تلك الليلة على فراشه .

٤-رصد تحركات العدو وتحسس أخباره ومخططاته، وهذه كانت مهمة عبدالله بن أبي بكر ، فقد أمر أبو بكر ابنه عبدالله أن يتسمع لهما ما يقول الناس فيهما نهارا ، ثم يأتيهما إذا أمسى بما يكون في ذلك من الخبر .
يقول ابن حبان “فكان يبيت عبدالله بن ابي بكر عندهما ،ثم يخرج من عندهما قرب الفجر ، فيصبح في مكة مع قريش كبائت بها ، فلا يسمع أمرا يُكاد به إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام ” .

٥-ترتيب كيفية إخفاء أثر أقدام عبدالله بن أبي بكر وذلك بتكليف عامر بن فهيرة بالمرور مع الغنم على الطريق الذي يسلكه عبدالله بن ابي بكر حتى يمحو أثر قدميه ، و لا يقتفي المشركون أثره .

٦-تكليف عامر بن فهيرة مولى ابي بكر بحراسة الغار ،وذلك برعي الغنم في النهار وحراسة الغار في الليل ، والعودة بالحليب للنبي وصاحبه ليلا ..

٧-الإمداد بالتموين الجاهز في الغار ، فلا يمكن اشعال نار لتجهيز الطعام ليلا أو نهاراً ، فإن ذلك يكشف مكان النبي وصاحبه ، فالنار ينبعث منها الدخان نهاراً ، ويظهر منها الضوء ليلا ، وهذا يشكل خطورة كبيرة ، لذا كان يأتيهما طعاما مُعداً جاهزاً من بيت أبي بكر الصديق ، تحضره اسماء بنت ابي بكر .
يقول ابن اسحاق : “وكانت اسماء بنت ابي بكر تأتيهما من الطعام إذا أمست بما يصلحهما” ، كما كان عامر بن فهيرة يمدهما باللبن من غنم ابي بكر.

٨-اختيار طريق يخالف الطريق الى الغار ، فبينما غار ثور يقع جنوب مكة ، والطريق الى المدينة يقع شمال مكة ، فقد اتخذ النبي وصاحبه طريق الجنوب ، سلك هذا الطريق نحو خمسة أميال حتى بلغ جبلا يُعرف بجبل ثور . للتمويه على قريش في اقتفاء طريقهم .

٩-مهار ة الدليل الذي اتخذه النبي وصاحبه مما يستلزم الاستعانة بأصحاب المهارات حتى لو كانوا غير مسلمين ، حيث لم يكن طريق الهجرة طريقا عاما يسلكه كل الناس ، بل اتخذ عبدالله بن أريقط طريقا غير الطريق المتعارف عليه ، الذي لا يعرفه كثير من المسافرين ولا يعلمه إلا الخبراء من الأدلاء وذلك لتفادي تعقب المغامرين ونظرات الفضوليين لهذا الركب المهاجر المحدود المُزِمِع الخروج من بلد حبيب يسوده الظلام يريد أن يطفئ نور الله في الارض .

و بهذا أختم الحلقة (45) ونلتقي معكم الاسبوع القادم بإذن الله في الحلقة (46) مع فقه السيرة وظلال النبوة مع ملاحظة احتفاظي بالمراجع لعدم امكانية نشرها في الجريدة في الوقت الحاضر..
اسأل الله ان يكتب لنا ولكم الاجر ” صدقة جارية” عن نشر سيرة وفقه أعظم نبي ورسول صلى الله عليه وسلم وان يجمعنا به صحبة في الفردوس الاعلى من الجنة .
اخوكم د. محمد النجار (27/09/2018) الخميس (17محرم1440هـ)

الدكتور محمد أحمد النجار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.