المسيح عليه السلام في الإسلام
بقلم: حاتم السروي
في زمنٍ طغت فيه المادية، وقل فيه الإيمان بالروح، وأصبحت حياة بني إسرائيل تنحصر في تلبية الرغائب المادية، وأصبح الدين عندهم حفنة من الطقوس والشعائر التي تفتقد الجوهر، وعندما شاعت الكراهية والحسد، أرسل الله ملاكه جبريل عليه السلام إلى السيدة العذراء البتول مريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها.
وكانت مريم فتاة صالحة قد نذرتها أمها لعبادة الله وخدمة الهيكل في بيت المقدس، وزهدت مريم في الدنيا فتوحدت وابتعدت عن الناس، وصرفت أوقاتها في الذكر والصلاة حتى فتح الله عليها، ونالت كرامةً عنده سبحانه، فكانت تأتيها فاكهة الصيف بالشتاء والعكس، كل هذا وباب حجرتها في الهيكل مقفول ومفتاحه مع كافلها وزوج خالتها النبي زكريا عليه السلام، فكان إذا دخل عليها وجد فاكهةً في غير أوانها، فيقول يا مريم أنَّى لكِ هذا؟ أي: كيف أتاك هذا والحال أن الموسم لا تخرج فيه هذه الفاكهة؟ فتقول: هو من عند الله، إن الله يرزق من يشاء بغير حساب. وعندها تيقن زكريا أنه بإزاء كرامة لصِدِّيقَة وهبها الله مقامًا عليِّا، ولما عاين قدرة الله دعا ربه أن يرزقه الولد وهو شيخٌ كبير وامرأته عاقر، فاستجاب الله دعوته ورزقه بيحيى عليه السلام.
ولأن مريم الصديقة ابنة عمران قد أحصنت فرجها وتجلت فيها صفة العفة، ومضت في ذكر الله بلا تواني، فقد أمست تشاهد الملائكة وهم يقولون لها أن الله اصطفاها أي اختارها، وطهرها أي رفعها عن الدنس، واختارها لتكون سيدةً لكل نساء العالمين.
وفي إحدى الليالي جاءها جبريل عليه السلام فتمثل لها بشرًا سويا، أي: على هيئةٍ بشرية خالصة، فاستعاذت بالله منه وأظهرت خوفها، فطمأنها وقال لا تخافي، إنما أنا رسولٌ من الله إليكِ، ومهمتي أن أهب لكِ غلامًا زكيا، أي طاهرًا طيبًا منزهًا عن الخطايا، بعيدًا عن السوء، عابدًا لله زاهدًا في متاع الدنيا، معرضًا عن الشبهات والشهوات.
صاحت مريم في استغراب: كيف أنجب الولد وأنا غير ذات بعل، أي لم أتزوج، ولا مسني رجلٌ في الحرام، بل قضيت أيامي في طهرٍ وانقطاعٍ عن النكاح، فقال لها المَلَك: هذا هينٌ على الله، وقد أراد سبحانه أن يجعله آيةً للناس، أي علامةً على طلاقة قدرته في زمن لم تعد تُذكَر فيه الروح، وأصبح اليهود يفكرون فقط في مصالحهم، ولا يعرفون أن وراء المادة عالمٌ آخر لا يخضع لقوانين الدنيا بل يخضع لمشيئة الباري سبحانه الذي تناهت كمالاته وجلت عظمته.
ثم نفخ الملاك في جيبها أي في فتحة قميصها التي عند مدخل الصدر، ونزلت النفخة إلى حيث الموضع الذي تدخل فيه النطفة ويخرج منه الولد، ولم تشعر لحمل عيسى ألمًا ولا ثِقَلا، ولما جاءها المخاض ألجأها إلى جذع النخلة، وتمنت لو كانت ماتت قبل هذا اليوم ونسيها قومها، لأنها تصورت أن هذا الوليد سوف يُعَرِّضُها لمتاعب عديدة، وسيتهمها اليهود حتمًا في شرفها، وهذا ما قد كان، ولا يزال التلمود باقيًا حتى يومنا هذا، وفيه أن البتول عليها السلام زنت مع جندي روماني اسمه “بانتيرا” فأنجبت عيسى عليه السلام سِفَاحًا، وحاشاها أن تكون كما وصفوا، فهي التي طهرها الله بنص القرآن الكريم، واختارها لتكون سيدة نساء العالمين.
ولما تمنت الموت وباحت برغبتها فيه، أجابها المسيح من تحتها وهو في المهد بقدرة الله: لا تخافي ولا تحزني، قد جعل ربُّكِ تحتكِ سَرِيَّا، يعني غلامًا سيدًا وجيهًا عند الله وعند الناس، فهذا معنى سري، ولهذا مدح بعضهم والي مكة (السري بن عبد الله بن الحارث بن سيدنا العباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم) فقال:
لقد صدق الذي سمَّاكَ لما.. تباشرت النساءُ بك السَّرِيَّا
وقال بعض المفسرين: السري هو جدولٌ صغيرٌ من الماء، حيث أن الله طيب خاطرها بالماء العذب النمير، وبالرُّطَب، بعد أن أمرها أن تهز إليها جذع النخلة، وفي هذا لفت لانتباه المسلمين كي يأخذوا بالأسباب، فقد كان من الممكن أن يسقط الله عليها الرطب دون أن تهز النخلة، لكنه أمرها بهز النخلة أخذاً بالأسباب، وفي هذا كرامةٌ لها عليها السلام، لأن النخلة لا يستطيع الرجل – فضلًا عن امرأة وضعت وليدها للتوِّ- أن يهزها، وقيل أن الرطب لم يكن هذا أوانه أصلاً، والذي عند أهل الكتاب أنه عليه السلام ولد في الشتاء، والرطب إنما يكون في الصيف، فيصبح نزول الرطب كرامة تضاف إلى كرامات العذراء مريم عليها السلام.
ثم أرشدها ألا تكلم أحدًا من الناس حين يسألونها، لأن المسيح عليه السلام سوف يتولى عنها الإجابة وهو في المهد حتى يكتمل عقد المعجزات وتقوم الحجة على بني إسرائيل، فيحيى من حيَّ على بينة ويهلك من هلك على بينة.
فلما جاءت به قومها تحمله صاحوا في استنكار: ما هذا الذي تحملينه؟ غلامٌ يا مريم؟؟؟ من أين جئتِ به؟ وما نعلمه يا أخت هارون أن أباكِ لم يكن رجل سوء وأن أمك طاهرة فكيف تضعي غلامًا بغير نكاحٍ شرعي؟؟ وقولهم يا أخت هارون يعني يا سليلة هارون عليه السلام، إذ كانت من ذريته، وذلك مثلما نقول: يا أخا فِهر، يعني يا ابن قبيلة فِهر، والذي عند أهل الكتاب أنها كانت من ذرية سليمان بن داود عليه السلام وهما من سبط يهوذا بن يعقوب، بخلاف هارون وموسى عليهما السلام فقد كانا من سبط لاوي بن يعقوب، ومن نسل هارون يأتي كهنة بني إسرائيل، فالمُلك عند اليهود في سبط يهوذا، والكهانة في نسل هارون اللاويين. وقال بعض العلماء معنى يا أخت هارون: يا شبيهة هارون في صلاحه وتقواه لربه وإنابته وإخباته له سبحانه.
فأشارت مريم إلى طفلها، فقال القوم: كيف نكلم غلامًا في مهده، ومن فوره نطق المسيح بقدرة الله وكان أول ما قال: “أنا عبد الله” ثم نَوَّهَ إلى نبوته فقال: “أتانيَ الكتاب وجعلني نبيا” والكتاب هو الإنجيل وقد علمه الله التوراة وأحكامها ومعانيها ثم أوحى إليه الإنجيل مصدقًا لما في التوراة ومضيفًا إليه، وقد جاء عليه السلام رحمةً وتخفيفًا على بني إسرائيل الذين حرم الله عليهم بعض الأطعمة لبغيهم وليس لأنها حرامٌ في الأصل، ومنها الشحوم أي دهون البقر والضأن والحيوانات المباحة للأكل، كما حرم عليهم لحم الإبل والأرانب.
وتحدث المسيح في المهد أيضًا عن منزلته فقال: ” وجعلني مباركًا أينما كنت” أي أكون مباركًا أينما حللت، فقد باركه الله وجعله من الصالحين وباعد بينه وبين الخطايا، وأوصاه بالصلاة والصيام على مدى عمره وطول حياته ليقوم بشرف العبودية لله عز وجل، وجعله برَّاً بوالدته ولم يقل عليه السلام “وبراً بوالديَّ” إذا لم يكن له أب فتعين أن يبر أمه وحدها، وقوله “ولم يجعلني جبارًا شقيَّا” أي تنزه بفضل الله ورحمته عن التجبر وهو الطغيان الذي يرث الشقوة، وجعله حنونًا رحيمًا على الناس محبًا لهم عطوفًا عليهم.
وأما قوله “والسلام عليَّ يوم وُلِدتُّ” يعني أنزل الله عليَّ أَمَنَةً فما نالني الشيطان بما ينال به الغلمان عند ولادتهم إذ يطعنهم في خاصرتهم فيستهل الوليد صارخا. “ويوم أموت” أي الأمنة من الله عليَّ من عذاب القبر وهول المطلع، “ويوم أُبعَثُ حيا” أي في يوم القيامة.
ثم نحن لا نعلم عن طفولة المسيح شيئًا باستثناء ما ورد في الإنجيل ومفاده أنه لما بلغ الثانية عشرة من عمره اصطحبته أمه وزوجها يوسف النجار إلى بيت المقدس، وانشغلا عنه قليلًا فمضى يكلم الكهنة والأحبار في مسائل دينية، وهم يندهشون لعلمه الواسع في سنه الصغيرة، ولما افتقدته أمه وبعلها جعلا يبحثان عنه حتى وجداه.
ولما بلغ عمره عليه السلام ثلاثين سنة جاءه الوحي بعد أن صام لله أربعين يوما، تمامًا كما نزلت الألواح على موسى بعد أن صام أربعين يوما، فقد أمر الله عز وجل موسى وعيسى أن يصوما حتى يتهيئا لنزول الوحي، فالصوم يعطيهما قوة روحية عالية ويصيرا أهلًا لتنزل كلمات الله وآياته ورسالته المقدسة.
وأراد إبليس الرجيم أن يختبر قوة إيمان المسيح عليه السلام فمضى يجربه، وقال له مر هذه الحجارة لتصبح خبزًا، فقال اذهب عني يا رجيم فليس بالخبز وحده يحيا الإنسان وإنما بكلام الله سبحانه. فطلب منه أن يلقي نفسه ويتردى من شاهقِ جبل؛ لأنه نبي الله وحتمًا سيوكل به ملائكته لتنقذه، فأجابه قائلًا: اذهب عني فليس لابن آدم أن يجرب ربه سبحانه. وأخيرًا صعد به على حافة سطح الهيكل وأراه ممالك الدنيا وقال أعطيك المجد والذهب والسلطان إذا سجدت لي مرةً واحدة، فقال اذهب عني يا لعين، مكتوبٌ في التوراة للرب إلهك تسجد وإياه وحده تعبد.
ثم شرع يدعو إلى الله جل وعلا، وإلى عبادته وحده، وأجرى الله على يديه معجزاتٍ باهرة من جنس ما برع فيه قومه، إذ كانوا حينذاك مهرةً في الطب، فكان يشكل من الطين تمثالًا على هيئة حمامة وينفخ فيه فيضع الله عز وجل فيها روحًا ويطير بإذن الله، وهذا حتى يعرف اليهود أن هناك روح إذ كانوا لا يؤمنون بها وتلك عادتهم حتى اليوم فهم لا يؤمنون إلا بالمادة ولا يعولون إلا على المحسوس، حتى أنهم طلبوا من نبيهم موسى عليه السلام أن يريهم الله جهرةً، وما ذاك إلا لقصورهم عن الفهم، فقد كانوا لا يستسيغون عبادة إله لا تدركه الأبصار، ولما طال عليهم غياب موسى اتخذوا عجلاً من ذهب وعبدوه من دون الله.
وكان المسيح يقول لبني إسرائيل أنه يحيي الموتى بإذن الله ويبرئ بمعنى يشفي الأكمه وهو الذي ولد أعمى والأبرص وهو الذي أصابه داء البهاق فتغير لونه وظهرت على جلده بقعٌ بيضاء اللون، كل ذلك بإذن الله، ليعلموا أن هذه المعجزات ليست من عنده ولا هو يقدر عليها وإنما يجريها الله على يديه لتقوم الحجة على بني إسرائيل، غير أنهم تولوا عن آيات ربهم وأرادوا قتل المسيح، فنجاه الله من كيدهم وأبطل جميع ما دبروه ورفع مكانته فلم يمسوه بسوء، ولا طالته أيديهم بالضرب والصفع، وإنما عصمه الله منهم، والمشهور عند المسلمين أنه رفع بجسمه إلى السماء فهو حيٌ فيها إلى اليوم.
وقد دلت السنة المطهرة في 61 حديثاً عن جمع كبير من الصحابة على نزول المسيح عيسى عليه السلام وأنه سيحكم بالعدل وفق الشريعة المحمدية وسوف يعم الأمن والسلام ويهلك الله على يديه المسيح الدجال وهو من بني آدم على الصحيح كما أنه يهودي الديانة وسوف يدعي الألوهية ويموه على الناس فيقتله المسيح ويخلص الناس من شره، والقول بأن رفع المسيح كان رفع مكانة وليس رفع مكان قول لا يصح لأن الله رفع مكانة كل الأنبياء فيكون تخصيص المسيح برفع المنزلة هنا لا معنى له لأنه من تحصيل الحاصل، وعقيدة رفع المسيح ونزوله هي عقيدة غالبية المسلمين ولم يخالف فيها إلا أتباع المدرسة العقلية الحديثة من حيث كونها تخالف العقل في نظرهم، ولكن عند النظر نعرف أن هذا مما لا تحيله العقول طالما آمنا بالله وقدرته المطلقة وحكمته في نزول المسيح على وجه التحديد مما سوف نتكلم عنه في مقالة أخرى مفصلة إن شاء الله تعالى.