حكاية شهبندر البؤساء
قصة قصيرة بقلم / حاتم السروي
” كل شيءٍ على ما يرام، أرضية الإدارة نظيفة ولامعة، والمكاتب زال عنها الغبار، أما دورة المياه فرائحة الديتول تفوح منها فكأنها في مستشفى” هكذا كان فوزي الفراش يخاطب نفسه ذات صباح.
في آخر الإدارة نام كبير البؤساء، رجلٌ أنفق عمره في إصلاح نظرة الناس إليه، حاول مرارًا أن يفهمهم أو يفهموه..لم يفلح. حاول أن يضرب الذكر صفحًا عن رأي الناس وأن يوفر لنفسه فرصة عمل/ فرصة حياة.. لم ينجح. في الواقع كان مثالًا نادرًا على الشقاء..
غطيطه ملأ الغرفة وأحلامه كئيبة مثل أيامه، كان يحلم أنه يأكل بصلًا وفولًا رائحته كريهة ومنظره…. أي منظر؟! ومع هذا وجد من يرنو إلى طبق الفول بعينيه ثم يحاول أن ينتزعه منه. ركض بطعامه وركض خلفه لص الطعام، ثم وقع في بركةٍ عفنة وأحس بشيءٍ يفترس قدميه، وبعدها.. صحا مرتعبًا له شهيق..أي عذابٍ كان فيه؟؟.
تتابع الموظفون واحدًا بعد الآخر على الثلاجة، كان هذا ولا يزال هو اسم إدارتهم.. إدارة رائعة، يدخل فيها الموظف شابًا طموحًا يعتقد في براءة أنه سوف يجعل من الفسيخ شرباتًا، وبعد شهرين ليس أكثر تراه لوحًا من الثلج، لا يشعر، لا يرى، ولا يريد أن يرى، فقط يأكل أو ينام ثم يتقاضى راتبًا هزيلًا آخر كل شهر ينفقه على ملذاته.. (الشاي والقهوة) أليسا من الملذات؟؟.
الثلاجة عند كبير البؤساء كانت جحيمًا أصابه بضغط الدم العصبي، لم يكن يهمه العمل، لأنه لا عمل. إنها مسمى تم وضعه بعنايةٍ وذكاء لاحتواء الشباب المتعثر في إيجاد مهنة ملائمة، روضة أطفال يذهبون إليها فيقضون فيها أوقاتهم وتعطيهم إعانةً للبطالة..هذا أفضل بالطبع من جلوسهم في المقاهي وعكوفهم على النارجيلة..
كان همه أن يدرس شخصيات زملائه ويعرف مفَاتِحَهُم، كان يجاهد حتى يفهم العقول ويدخل القلوب. كل يومٍ في الصباح وقبل أن يغسل يديه وجبهته، يبذل مجهودًا ذهنيًا كبيرًا في تحضير كلمة (صباح الخير) التي سيلقيها على مسامعهم. كيف سيقولها؟ بمرحٍ وخفة، أم باحترامٍ وجدية؟؟.. ثلاجة الجحيم.
دخل الزملاء فأعدوا بسرعةٍ فائقة وليمة الإفطار. تقليدهم اليومي. منذ أربعة عشر عامًا لم يتخلفوا يومًا عن إعداد الوليمة الصباحية. هل كان يشاركهم؟ بالطبع لا. لم يسمحوا له أن يشاركهم طعام الملوك. وظل بينهم كالبعير الأجرب حتى وقعت الواقعة… لكل شيءٍ إذا ما تمَّ نقصانُ، والوليمة آن لها أن تنفضّ، لقد جاء المدير الجديد، وما أدراك من هو.. موظفٌ طموح ضحك على نفسه أو ضحكت عليه نفسه، وانحصرت آماله في ترقيةٍ تكون شاهدًا على نجاحه، والحق أن الجميع فاشلون.
لم يكن مديرًا عاديًا، تراه إذا دخل إدارته كالإعصار، فتخفق له قلوب الموظفين رعبًا، وتقوم الإدارة بمن فيها على قدمٍ وساق، والكل يعمل. لا أحد يعرف مضمون العمل أو جدواه.. إنها سُخرة. أوراقٌ وأختامٌ ومشاوير، كل هذا حتى يترقى المدير.. خصومات حلت على الموظفين فأحالت وليمتهم أنقاضًا، راتبهم الزهيد صار عدمًا، كيف سيأكلون؟ شهيتهم تبخرت، حالتهم تدهورت، وأكفهم ترتفع بالدعاء على المدير ثم تنخفض إذا مر أمامهم في خُيَلاء.
أربعة عشر عامًا يأكلون ويثرثرون، يدخلون في صراعات ويتشاتمون بألفاظٍ نابية ثم يعودون أحبابًا كما كانوا. كل هذا لم يعد له وجود، فكما جمعهم القدر فرقهم المدير، وفرَّ كل موظف بجلده من خورشيد باشا -هكذا كانوا يسمونه- ولم يبق إلا كبير البؤساء.
البؤس لا يستمر، تمامًا كما لا تستمر السعادة.. لقد نمى إلى علم البائس أن المدير يتقاضى راتبه يدويًا حتى الآن من الصراف، رجلٌ قديم الفكر والروح والقالب، هل سيتنازل يومًا ويتعامل بالتكنولوجيا؟! وحيث كان المدير يستعمل ذاك البائس ويأمره بقضاء مصالحه ويرسله في مشاويره الكثيرة والمهلكة، فقد وافق سيادته أن يتقاضى البائس راتبه من الصراف ثم يعود به إليه.
فكرةٌ إجرامية بسيطة، ومن اليسير جدًا أن يكشفها أي أحد غير المدير، ومع هذا انطلت عليه الخدعة بعد أن رص البائس عبارات المديح والمجاملة وتقمص دور الموظف المنافق زاعمًا أنه يريد توفير المجهود على جناب المدير اللوذعي، ثم ركب الريح إلى الصراف وأخذ الراتب كاملًا بغير نقصان.. رزمة الأوراق النقدية تعد بالآلاف، لم تكن تخطر في بال موظف ولا أحد يعرف عنها شيئًا، مبلغٌ محترم هو مجمل مستحقات خورشيد باشا لكل شهر، الراتب مضافًا إليه بعض البدلات.. أخذه البائس وهرب.
في الإسكندرية ظل يعمل في مطعمٍ للأسماك، يمسح الأرضية ويغسل الصحون، ويحمل على ظهره الأرز والدقيق حتى كاد الظهر أن ينحني، وأخذ يدخر من راتبه حتى حال عليه الحول، وعندها قصد الهجرة فكان له ما أراد.
وبقيت الثلاجة قاعًا صفصفا.. الموظفون فروا من جناب المدير، وتوزعوا على الإدارات الأخرى، وجناب المدير نفسه أصيب بجلطة وتبخرت أحلامه في الترقية وصار كل أمله أن تتجدد إجازاته المرضية، وقد أنفق على مرضه كل ما لديه وهو الآن على وشك الإفلاس.. وحده كبير البؤساء نجا من المعمعة، والذين عادوا من هناك يحكون لنا أنه فتح مطعمًا للأسماك، الأسماك التي كان يشبهها، تبدو بلهاء في الظاهر، وفي داخلها الكالسيوم.
تمت