أراء وقراءاتالعالمالمجتمع

صديقتي و “العم موريس”.. بقلم الدكتورة وفاء الشيخي

صديقتي و "العم موريس".. بقلم الدكتورة وفاء الشيخي 2
صورة تعبيرية من النت

أخبرتني صديقتي أنه كان يعمل في عيادتها رجلٌ مسيحي، دمثُ الخلق من شيمه الأمانةُ والصدق والطيبة والتواضع، كان خجولاً قليل الكلام .

وفي مرة سألها بنبرة حزينة : لماذا  أنتم المسلمون – يا دكتورة – تعتبروننا نحن المسيحين كفاراً ؟! وتعتقدون أنكم أفضل منا، وأنكم وحدكم مَن سيدخل الجنة ؟!!

تقول صديقتي : صدمني سؤاله ، ورددتُ عليه بأني لا أنكر أن بعض المسلمين يحمل هذا الاعتقاد، وهذه النظرة ، لكني لست منهم ، وإن كنت متأكدة من اختلافنا في العقائد والشرائع، ولكن  الجنة والنار أمرها بيد الله وحده، يجزي بها من يشاء، ويعاقب بها من يشاء ..

تقول صديقتي انتهى الحوار عند هذا  الحد، ولكن ظل سؤال “العم موريس” يتردد في ذهني وخاطري وأنا أسترجع ملامح وجهه ونبرة صوته الحزينة..

وبعد فترة  توفي” العم موريس”  الرجل الطيب الخجول،  ورأيته في المنام  يمشي خلفي يسألني مرة أخرى : يادكتورة هل تستطيعي ان تفسري لي قول الله :

۞وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىٰ (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَىٰ (41) سورة النجم .. ، وجعل يكرر كلمة ” للإنسان ” أكثر من مرة حتى اختفى عني .

انتفضتُ من نومي وأنا أكرر : يا لله يالله، كيف لعم موريس أن يتلو عليَّ آيات من كتاب الله بهذه الفصاحة وهذا اليقين ؟ !!  وكنت متأثرة جدًا بهذه الرؤيا !!

وتقسم لي صاحبتي بالله أنها لن تنس هذا المنام مابقيت على قيد الحياة!!

اقشعر بدني وأنا استمع لما ترويه صديقتي

وتدافعت الأفكار والمعاني والأسئلة بغزارة فى عقلي ووجداني، لماذا يكره بعض أهل الديانات الأخرى أهلَ الإسلام ؟ ولماذا يكره بعض المسلمين من ليسوا على ملتهم وعقيدتهم ،وفكرهم ونهجهم !!؟

فإن كانت الأديان قد جاءت لإسعاد الإنسان في الدنيا والآخرة ، وجاءت لتجعل الإنسان أكثر إنسانية وأكثر قابلية للتعايش مع الآخر، ونشر الرحمة والسلام والأمان والنماء، فهل حققت الأديان هذا الهدف العظيم؟

هناك محطات متعددة عبر التاريخ كانت الأديان مجال صراع واقتتال وحروب ودمار، وإلى يومنا هذا تلعب الأديان دورًا كبيرًا في التوترات الكبرى الموجودة في العالم ، ولكن في الجانب الآخر مازال الدين حاضرًا، ومازال الإنسان يحتاج إلى منظومة الدين القيمية .. وهنا السؤال يطرح نفسه : هل الأديان في ذاتها هي المشكلة ؟ أم وعي الإنسان بها هو المشكلة ؟

لو تدبرنا آيات القرآن الكريم سنجد أنها تخبرنا بوضوح أن كل الديانات هي في حقيقتها دين الله الواحد، وهو دين الفطرة “الاسلام” وإنما اختلفت الأزمنة والنهج والتشريعات والشرائع ،فكل القيم التي جاء بها القرآن الكريم هي نفسها التي جاءت بها كل الكتب السماوية، عبادة الله الواحد ولايتخذ بعضنا بعضاً أربابًا من دون الله {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ }. (64 ) ال عمران

والإسلام في معناه الشامل هو إسلام الكيان والوجه لله، والإقرار بأنه الخالق المعبود واحد لا شريك له ، فجميع الكتب السماوية تقر أولا بوحدانيّة الله، التي تنفتح على التوحيد في العقيدة والعبادة والطاعة من خلال كلّ مفردات الحياة، على أن ينخرط الجميع في الحوار في كلّ الأمور انطلاقًا من مسلّمة “التوحيد”، وهو ما عكسته ” كلمة سواء”،

والنقطة الهامة هي أن لا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله، أي أن ينطلق الطرفان من أنّ الإنسان واحد يعيش في موقع إنسانيّته، لا يختلف واحد عن آخر، ولا يتميّز إنسان عن إنسان من خلال اللون والجنس والعرق والأرض والمال والنسب… فالخصائص الإنسانيّة التي خصّ الله بها الناس، لا تمثّل امتيازات تتصاعد في حجم الترقي الإنسانّي، لتجعل إنساناً ربّاً لإنسان، بل من خلال الإدراك أن للجميع حقوقهم وواجباتهم ومسؤوليّاتهم، وهم سواسية أمام الله والقانون الإلهيّ.

فالقرآن الذي أُنزل على خاتم النبيين، هو خطاب للعالمين كافة ، ومنبع الوحي من الله الواحد الأحد، رب للعالمين كافة ، بكل مافي كتاب الله من تعاليم وحقوق وواجبات ، لذلك هو صالح لكل البشر بل هو احتواء للوجود بأكمله .

ومن صفات رب العالمين أنه “الرحمن الرحيم”، ودينه منظومة شاملة للحياة تقوم على أن علاقة الخالق بالكون والمخلوق ، وعلاقة المخلوق بالكون أساسها ،”الرحمة “، ورسالة خاتم الأنبياء جاءت رحمة للعالمين جميعا بإختلاف أجناسهم وتنوع معتقداتهم .

{وَمَاأرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} ( 107) الانبياء،

فإن كانت منظومة العلاقات تقوم على فطرة الرحمة، فبماذا يجب أن ينعكس هذا المعنى على تعاملاتنا، وفتاوينا، وعلى الرأي السياسي، والاقتصادي، والدولي والعلاقات الانسانية كافة!!؟

لطالما كان الإختلاف بين البشر، حقيقة تاريخية، اختلفت باختلاف مراحل الزمن وتطوره، والبيئة الحاضنة له “الاختلاف وليس الضد”،  وهذا يعني أن يأخذ كل واحد طريقاً غير طريق الآخر في حاله أو قوله أو فكره أو اعتقاده، وبهذا المعنى، يكون الاختلاف أشمل وأعمّ من الضد، والقبول بالتنوع والاختلاف بين البشر محور رئيسي مهم لو أيقنه بعض المتشددين لتغيرت أفعالهم وأقوالهم ونظرتهم للآخر، والقرآن الكريم يقر صراحة أن أصل الوجود الإنساني مبني على التنوع والاختلاف.

۞وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً ۖ وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ ۚ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ ۗ118 (هود).

وقوله تعالى :

۞ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ  ۞ (13) الحجرات

ومن معاني التقوى التقرب إلى الله بالعبادات والطاعات ، وكف الأذى عن الناس.

وكرم الله بني آدم ولم يخص فئة معينة بالكرامة والتكريم،  وأوضح أن للإنسان كرامة كيانية لا يجوز التفريط فيها على الإطلاق، فبحسب التصورات الإيمانية، يقوم الإنسان في منزلة القطب الأساس والمركز ومحور الكون كلّه، فيخلقه الله في أحسن تقويم، ويأمر الملائكة بالسجود له، ويستخلفه في الأرض ويذللها له، ويرزقه الطيبات، ويفضله على باقي المخلوقات….

۞ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70) الإسراء

فإذا أقررنا بحقيقة التنوع والاختلاف وربطناهذا بالرحمة والسلام والأمان، فما هي الأسس التي يجب أن تحكم تعايشنا مع بعضنا ومع الآخر ؟

وعندما نتكلم عن أسس التعايش البشري ، سنجد إشكاليات واضحة داخل الوعي الديني في ثلاث مساحات مختلفة، وجب التنبه لها والفصل بينها، المساحة الأولى الإعتقاد، والثانية الحقائق ، والثالثة الحقوق .

“ذكرها د. جاسم سلطان في كتابه التعايش”.

ففي مساحة”الإعتقاد” وضح لنا كتاب الله في آيات عديدة أن البشر يختلفون في شريعتهم ومنهاجهم، فشريعة سيدنا محمد عليه أفضل صلاة وأتم تسليم، تختلف عن شريعة سيدنا عيسى تختلف عن شريعة موسى عليهما السلام…واستباق الخيرات هو ما يميز إنسان عن آخر، وأمة عن أخرى..

۞ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ۚ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ ۖ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ۚ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48) المائدة

 

وفي مساحة “الحقائق” يخبرنا الله عز وجل حقائق ومعلومات عن الحياة والانسان و الرسل والأنبياء والكون …

كقوله تعالى :

۞ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَىٰ وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) ..البقرة

وفي مساحة” الحقوق” وهي التي تُبنى عليها العلاقات بين البشر من المسلمين والنصارى واليهود وغيرهم ..تقوم على قاعدة ” الرحمة و البر والقسط ”  ما لم يقاتلوننا ويعتدوا علينا ويخرجونا من ديارنا، قال عز من قائل :

۞ لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِين۞َ (8 ) الممتحنة

فالمتابع  للمشهد اليوم يجد أن مساحة الحقائق قد غابت، وتداخلت مساحة الإعتقاد على مساحة الحقوق، فأوجدت الاحتقان والكراهية والتحارب والتباغض، والاعتداء بدعوة أن كل كافر وجب مقته  وقتله، وهذا ينافي كل الحقائق التي ذكرها القرآن الكريم، والكتب السماوية التي أنزلها الله وأنزل معها الميزان ليقوم الناس بالقسط والعدل.

۞ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ۞ ( 25 )الحديد.

وهذا التداخل يظهر جليًا في فكر ونهج هؤلاء الذين يعتبرون أن الحق تنزل عليهم من السماء وحدهم دون خلق الله، وأن الله أوكل إليهم أمر الدين كأنهم المهتدون وباقي البشر جهلة ضالون، ويريدون أن يلزموا أهل الأرض باعتقادهم ونهجهم .

وما يحدث اليوم في بقاع العالم من قتل ونحر ودمار وتفجير،  واستحلال للأعراض والأموال ، وإراقة واستباحة الدماء، والفتوى بغير علم ، ماهو إلا صورة عن الفهم المشوه للدين ، والفكر المغلوط عن مفهوم الدعوة واتباع الحق، الدعوة التي أوضح الله حدودها ومنهجها أولا بتبيان أسلوب الدعوة الذي يقوم على الموعظة والحكمة والمجادلة بالتي هي أحسن لقوله تعالى :۞ ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ۞ (125) النحل

ثانيا : بتجنب آفات الدعوة الأربعة التي يتبعها الغلاة .. {السيطرة، الجبروت، الوكالة،الحفظ}

مع أن رب العالمين قال لرسوله الكريم :

۞فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ (21) لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ ۞ (22)الغاشية

۞نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ ۖ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ ۖ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ ۞ (45) ق

۞ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا ۗ وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا ۖ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ۞ (107) الأنعام.

لابد لنا اليوم من موقف نستعيد به الدين من براثن الفهم الإنساني المغلوط،  ففي ظل عودة الصراعات السياسية ،الدولية والوطنية، نخشى من أن تكون هذه العودة  “غير الواعية”، مساراًً لعودة التاريخ إلى الوراء، فيتكرر ذاك الخطأ الكارثي، الذي مثّلت فيه السلطات الرسمية للأديان سيادة إلهية باسم الله، ثم نسبةُ رؤيتها ومعتقداتها وانحرافاتها لله، والله والدين والكتب السماوية والرسل والانبياء برءاء مما نسب وينسب إليهم ، فخير لنا أن نقضي أوقاتنا باستباق  الخيرات،  والسعي لندخل أنفسنا الجنة ، لا السعي واللهث  لإثبات أن غيرنا سيدخل النار ، فالجنة والنار أمرهما بيد الله  وحده ،كما قالت صديقتي لذلك الرجل المسيحي .

صديقتي و "العم موريس".. بقلم الدكتورة وفاء الشيخي 3
د. وفاء الشيخي

 

Related Articles

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.