أراء وقراءات

صرخة الضمير الأخير: وَرْدْ غزة.. طفلة بريئة أصبحت أيقونة الألم وبوصلة العار

ورد الناجية الوحيدة من عائلة استشهد كل أفرادها الـ 30 نصفهم من النساء والأطفال

 

بقلم / مدحت سالم 

قال الله سبحانه وتعالى في سورة القصص:

بسم الله الرحمن الرحيم

(( وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ )) (الآية ٥)

لم يكد يندمل جرح حتى ينفتح آخر لم نفق بعد من فجيعة أبناء الدكتورة آلاء النجار التي جبر الله مصابها وربط على قلبها وتقبل أولادها شهداء حتى باغتتنا صورة الطفلة ورد جلال الشيخ خليل تلك الوردة التي تحاول النجاة من نيران أعداء أضرموا المحرقة في مدرسة فهمي الجرجاوي  مدرسة ظلت إلى الأمس القريب ملاذا آمنا لأطفال يبحثون عن العلم والأمل فجر اليوم على أرض الرباط تحولت المدرسة إلى ركام وشظايا ودماء بعد أن استهدفها الاحتلال بأربعة صواريخ حارقة صورة ورد التي هربت من ألسنة اللهب تلتصق بذاكرتنا لا تبرحها وكأنها قدر يمشي على جمر الخذلان في عيونها الصغيرة التي لا تزال تحمل بصيصا من الحياة رغم هول المشهد نقرأ آلاف القصص التي لم ترو بعد قصص براءة سرقت وأحلام تبخرت ومستقبل تحول إلى رماد

الناجية الوحيدة من عائلة استشهد كل أفرادها الـ 30

 

ورد الطفلة الناجية الوحيدة من عائلة ارتقى كل أفرادها ثلاثون فردا نصفهم من النساء والأطفال من بينهم أحد عشر فردا من عائلة واحدة لم تكن هذه مجرد أرقام باردة في تقارير إخبارية بل هي أرواح أزهقت أحلام طمست براءة سلبت وما أصدق ما قاله ديفيد ميلباند رئيس لجنة الإنقاذ الدولية ذات مرة إن الأزمات الإنسانية لا يمكن أن تكون مجرد إحصائيات خلف كل رقم هناك قصة إنسانية تستحق أن تروى وهذا ما نراه في وجه ورد الذابل الذي يخترق المشهد كسهام في ضمير حي آثر الصمت كأنها آخر ما تبقى من الإنسانية تنادي قبل أن تُزهق هذه الوجوه الصغيرة البريئة التي تطل علينا من تحت الركام هي نداء أخير لكل ضمير حي في هذا العالم نداء لا يحتمل التأجيل ولا يقبل المساومة نداء يمزق ستار الصمت ويصم آذان اللامبالاة إنها صرخة أرواح تحترق في صمت وعيون تتساءل عن ذنبها لتلقى هذا المصير المروع

**مدارس لا مأمن ومحارق لا تتوقف وانهيار كل الحدود

ما عادت المدارس مأمنا ولا المآوي تحمي من بأس نزل كالغدر لا كالحرب وما عاد العدو يخفي سلاحه ولا يتلوى في خبثه بل يضرب على عيان فيقتل الطفولة كما يقتل الحجر ويذر المدينة رميما ثم يعود ليتفاخر بأنه أنجز مهمة هذه هي الحقيقة المرعبة التي نعيشها اليوم حين يصبح استهداف المدنيين والأطفال سياسة ممنهجة لا تثير غضبا عالميا حقيقيا وكأن العالم قد ارتضى أن يصبح شاهدا صامتا على مذابح لا تتوقف وكما قال الساسي الإفريقي الشهير نيلسون مانديلا (( لا يمكن لأحد أن يكون حرا حقا حتى نكون جميعا أحرارا )) وهذا يشمل أطفالنا الذين يحترقون إن ما نراه اليوم هو انهيار تام لكل القيم والمبادئ الإنسانية والدولية كل القوانين والأعراف التي وضعتها البشرية لحماية الضعفاء باتت حبرا على ورق تحت وطأة القصف والتدمير الممنهج لم يعد هناك مكان آمن لا مستشفى ولا مدرسة ولا مسجد ولا كنيسة كلها أصبحت أهدافا مشروعة في قاموس الظلم والطغيان وأين العالم من هذا كله أين هي منظمات حقوق الإنسان أين هي الهيئات الدولية التي أقسمت على حماية المدنيين إن صمتهم المطبق هو تواطؤ يقتل الأمل في نفوس الملايين

**خذلان أمة وصمت العالم المريب

لكن المصيبة الكبرى ليست فقط في قسوة الأعداء بل في خذلان أمة هزيلة ما بين مشغولة بنفسها وأخرى مستسلمة لركامها صمت فاجر وتطبيع يزين خيانة بلغة المصالح وعروش تطأ وجه المروءة لترضي جلادا لا يعرف شبعا من الدم أي عرب إن كانت النار في غزة فإن الدخان بلغ سقف أرواحكم وإن كانت الطفلة تحت الركام فإنكم أنتم المطمورون تحت جثث الوهم والعجز هذه الكلمات ليست مجرد حبر على ورق بل هي صرخة حقيقة تهز كل ذي ضمير لقد قالها الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما ذات مرة (( إن الإنسانية لا يمكن أن تتجزأ حين يعاني جزء من العالم فإن العالم بأسره يتأثر )) فما بالنا حين تكون المعاناة بهذا الحجم وبهذه القسوة إن هذا الصمت ليس صمتا عاديا إنه صمت مدو يصرخ في آذاننا جميعا إنه صمت المتواطئ وصمت الخائف وصمت من باعوا شرفهم وكرامتهم من أجل بقايا دنيا فانية إن هذا الخذلان ليس مجرد خذلان سياسي بل هو خذلان أخلاقي وديني خذلان أمة باتت ترى أبناءها يحترقون ولا تحرك ساكنا خذلان يدمي القلب ويجعل الروح تتفطر من شدة الألم.

**الصحوة المطلوبة والمسؤولية الكبرى المنتظرة

لا تنتظروا نصرا من خارجكم فإن من تواطأ على دمكم لن يحمل ماء لغسل جراحكم ما ينقذكم إلا أن تعودوا لأنفسكم أن تخلعوا عنكم غبار الترف وتخلوا عن موائد لا تقدم فيها إلا الأوطان فالكرامة لا تستجدى والمجد لا يستعار إما أن ننهض بقاماتنا المكسورة ونرممها بالعزائم أو نمضي إلى الهلاك صامتين خانعين بلا أثر وهي رسالة يجب أن تدق في أذن كل من بقي فيه بقية من وجدان تأمل صورة الطفلة لا بعينك بل بفطرتك واسأل أي عالم هذا الذي تحترق فيه البراءة ولا يتحرك فيه الضمير إن لم توقظك النيران فلن يفعل الأذان وإن لم تحركك صرخة طفلة فاعلم أنك ميت تمشي في هيئة حي لقد تجاوز الحرق الأجساد وطال المعاني موت الغيرة وانطفاء النخوة وانكسار الرجاء فيمن يفترض أنهم الأعمدة وكما قال المناضل  والمفكر والسياسي  الأمريكي مارتن لوثر كينج ذات مرة (( الظلم في أي مكان هو تهديد للعدالة في كل مكان )) إن المسؤولية اليوم تقع على عاتق كل فرد منا على كل إنسان يحمل في قلبه ذرة من إنسانية ليست المسؤولية مسؤولية الحكومات وحدها بل هي مسؤولية كل فرد منا على كل واحد أن يسأل نفسه ماذا فعلت أنا لأجل ورد وأمثالها هل اكتفيت بالصمت والمشاهدة أم أنني تحركت ولو بكلمة ولو بدعاء ولو بموقف صامت يرفض الظلم إن الصمت اليوم هو مشاركة في الجريمة

**جذوة تضيء أو رماد يُداس مصيرنا بين أيدينا

اختر لنفسك موضعا في هذا الزمان إما أن تكون جذوة تضيء ظلمة الطريق أو رمادا تطؤه الأقدام وتمضي هذه هي المعادلة وهذا هو الاختبار الإلهي في هذا الزمن العصيب وفي ختام هذا المقال الذي تضيق الكلمات عن وصف ما بداخله من حزن وألم أتضرع إلى الله رب هذا الكون لعله يفرج عن عباده لأجل أطفال رضع وشيوخ ركع وبهائم رتع يا رب الكون ائذن لهذه الحرب أن تضع أوزارها واجعل النصر فيها لأهل الحق المستضعفين آمين فهل ما زال هناك بقايا ضمير في هذا العالم يمكن استصراخه هل يمكن أن تهتز قلوب لم يهزها حرق الأطفال وهل ستبقى صورة ورد مجرد خبر عابر في زحام المآسي أم ستكون الشرارة التي توقد ثورة الضمير في كل من آثر الصمت والخنوع إن مصيرنا اليوم بين أيدينا إما أن نصنع الفارق ونغير مجرى التاريخ أو نبقى مجرد ضحايا صامتين لظلم لا يعرف الرحمة

** أيقظوا الضمائر النائمة وانفضوا غبار الخنوع

أيها العالم الذي يغمض عينيه عن الفظائع أيها الساسة الذين تتراقصون على دماء الأبرياء أيها الإنسانية التي تدعي الحرية والعدالة إلى متى سيبقى صمتكم وصمة عار في جبين التاريخ إلى متى ستبيعون كرامتكم ومبادئكم من أجل مصالح زائلة إن دماء الأطفال الأبرياء التي تسفك اليوم في غزة ستلاحقكم في كل محفل وفي كل منبر ستكون لعنة تطاردكم في يقظتكم ومنامكم وكما قال الفيلسوف الإغريقي سقراط (( هناك قاض واحد للجميع هو الضمير الإنساني )) إن لم يهتز ضميركم اليوم فمتى سيهتز هل تنتظرون أن تحترق كل أزهار الطفولة لتستفيقوا هل تنتظرون أن تتحول الأرض كلها إلى رماد حتى تدركوا أنكم قد خسرتم كل شيء كفى صمتا كفى خنوعا كفى تآمرا لقد بلغ السيل الزبى وطفح الكيل ولم يعد هناك متسع للامبالاة إن صرخات الأمهات الثكلى ودماء الأطفال الأبرياء تصرخ في وجه كل من ادعى الإنسانية ولم يحرك ساكنا

نداء من قلب الألم إلى قلب العالم المتواطئ

من قلب هذه الأمة المكلومة من بين ركام البيوت المهدمة ومن تحت أنقاض المدارس المحترقة نصرخ بأعلى أصواتنا أوقفوا هذا الجنون أوقفوا هذه المذبحة إن ما يحدث ليس مجرد صراع سياسي بل هو حرب على الإنسانية حرب على كل القيم والمبادئ التي تدعون أنكم تؤمنون بها إن صرخات الأطفال المحترقين هي نداء استغاثة أخير إلى كل من بقي فيه ذرة ضمير هل ستلبون النداء أم ستستمرون في غض الطرف عن هذه الجرائم البشعة إن التاريخ لن يرحمكم والأجيال القادمة ستلعنكم على صمتكم وخنوعكم إننا اليوم أمام مفترق طرق إما أن ننهض جميعا لنوقف هذا العدوان أو نتحمل جميعا مسؤولية هذه الجرائم البشعة إما أن نكون جزءا من الحل أو نكون جزءا من المشكلة إننا نناشد الضمير الحي في كل مكان في كل قارة وفي كل دولة نناشد كل إنسان حر وشريف أن يرفع صوته عاليا وأن يدين هذه الجرائم التي لا يمكن أن يقبلها عقل ولا قلب لا يمكن أن نقف مكتوفي الأيدي ونحن نرى أطفالنا يذبحون أمام أعيننا إنها لحظة الحقيقة لحظة أن نختار بين الإنسانية والوحشية بين الضمير واللامبالاة.

**العزيمة المتأججة والإيمان الراسخ بنصر الله

إننا نؤمن إيمانا راسخا بأن الحق سينتصر وأن الباطل سيزول مهما طال أمد الظلم ومهما اشتدت المحنة فإن إرادة الصمود والعزيمة على النصر متجذرة في هذه الأمة التي أنجبت ورد وغيرها من الأبطال إننا لن نيأس ولن نستسلم وسنواصل النضال حتى تتحقق العدالة ويندحر الظلم وكما قال الإمام الشافعي (( ربما نام الظالم على وسادة من حرير لكنه سيصحو على جمر من نار))  فليعلم الظالمون أن نهايتهم قريبة وأن دماء الشهداء ستكون وقودا لانتفاضة عارمة تجتث جذور الظلم والطغيان إن غدا لناظره قريب وإن النصر آت لا محالة بفضل الله وبإرادة هذا الشعب الذي لا يلين فلنتحد ولنصمد ولنثبت وليعلم العالم أجمع أننا لن نركع إلا لله ولن نستسلم لأحد ولن نساوم على كرامتنا وحريتنا مهما كانت التحديات ومهما بلغت التضحيات إننا أمة لا تعرف اليأس ولا تستسلم للقنوط أمة تتجدد فيها العزائم مع كل فجر وتزداد صلابتها مع كل محنة إننا نراهن على الله أولا وعلى إرادة هذا الشعب الأبي الذي رفض كل أشكال الذل والخنوع ووقف صامدا في وجه أعتى الآلات العسكرية إن هذه الدماء التي تسفك اليوم لن تذهب سدى بل ستروي شجرة الحرية والنصر التي ستزهر عما قريب بإذن الله فهل آن الأوان لأن يستفيق ضمير العالم من سباته العميق؟ أم أننا سنظل نصرخ في واد سحيق لا يسمع صرخاتنا أحد؟ إن الإجابة على هذا السؤال سيكتبها التاريخ بأحرف من نور أو من دماء.

ختاماً

نتذكر أبيات الشاعر الفلسطيني الراحل يوسف الخطيب

‎سأمد في الآفاق ألسنة اللظى

‎حُمراً لها في الخافقين أوارُ

‎ولأحرقنّ الليلَ حتى تنجلي

‎أسدافه فتوقدي يا نـــــارُ

   أنا للحياةِ ولن أظلَ مشرداً

أقسمتُ لا أرضي ولا أختارُ

مدحت سالم 

كاتب وباحث 

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى