فرصة العمر في العشر الاوائل من ذي الحجة
بقلم / الدكتور محمد النجار
والله لا يوجد مثل هذه الأيام
من رحمة الله تعالى بالعباد أن منحهم مواسم مباركة ، يمحو الله بها السيئات وتتضاعف فيها الحسنات وترتفع فيها أعلى الدرجات ، ومن هذه المواسم : العشر الاوائل من شهر ذي الحجة. وقد أقسم بها الله تعالى( وهو سبحانه لا يقسم إلا بعظيم ) : (وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ) الفجر:1-2 . قال ابن كثير في تفسيره: تفسير ابن كثير 8/ 381 أن الليالي العشر هي الليالي الأولى من ذي الحجة كما قاله ابن عباس وابن الزبير ومجاهد وغير واحد من السّلف والخلف وهو الصحيح.
قال ابن حجر في الفتح: “والذي يظهر أن السبب في امتياز عشر ذي الحجة لمكان اجتماع أمهات العبادة فيه، وهي الصلاة والصيام والصدقة والحج، ولا يتأتى ذلك في غيره. فتح الباري 2/460
روى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
((( ما من أيَّامٍ العملُ الصَّالحُ فيهنَّ أحبُّ إلى اللهِ من هذه الأيَّامِ العشرِ . قالوا : يا رسولَ اللهِ ولا الجهادُ في سبيلِ اللهِ ؟ فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم : ولا الجهادُ في سبيلِ اللهِ إلَّا رجلًا خرج بنفسِه ومالِه فلم يرجِعْ من ذلك بشيءٍ))) اخرجه البخاري
ولهذا قارن الصحابة رضوان الله عليهم فضل هذه الأيام العشر بفضل الجهاد في سبيل الله ، وذلك للأجر العظيم الذي ينتظر المجاهدين في سبيل ، فرد عليهم النبي صلى الله عليه وسلم بأنها أفضل من الجهاد في سبيل إلا إذا خرج رجل للغزو في سبيل بنفسه وماله ، فأنفق ماله وازهقت روحه في سبيل الله .
وكان الصالحون يعمرون هذه الأيام العشر من ذي الحجة بالأعمال الصالحة ، والأقوال الصالحة.
فينبغي على المسلم الواعي أن يغتنم هذه الأيام بالأقوال والأفعال الحسنة ، ومنها :
- استشعار حرمة المعصية
فإذا كانت الحسنات يتضاعف أجرها في هذه الأيام العشر ، فإن المعاصي أيضا تتضاعف سيئاتها ، يقول ابن القيم رحمه الله:
أن التقرب إلى الله رب العالمين والإحسان إلى خلقه من أعظم الأسباب الجالبة لكل خير، فما استجلبت نعم الله تعالى، واستدفعت نقمه بمثل طاعته، والتقرب إليه، والإحسان إلى خلقه .
- الحرص على الصيام : الحرص على صيام الأيام العشر الأولى من شهر ذي الحجة ، وكان الحسن البصري يكره أن يصوم صيام تطوع وعليه قضاء من رمضان، لكنه يصوم تطوعاً في هذه العشر حتى لو عليه صيام قضاء عن رمضان،وذلك لحرصه على صيام العشر الأولى في ذي الحجة وعدم تفويتها .
- تأكيد صيام يوم عرفة :
لما فيه من الأجر والمغفرة والعفو ، وورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :
(((صِيامُ يومِ عَرَفَةَ، إِنِّي أحْتَسِبُ على اللهِ أنْ يُكَفِّرَ السنَةَ التي قَبلَهُ، والسنَةَ التي بَعدَهُ، وصِيامُ يومِ عاشُوراءَ، إِنِّي أحْتَسِبُ على اللهِ أنْ يُكَفِّرَ السنَةَ التِي قَبْلَهُ)))
رواه مسلم ، وأبو داود ، وأحمد ، والترمذي ، وابن ماجه ، وابن حبان واللفظ له.
وكان التابعي سعيد بن جبير رضي الله عنه يقول: (((أيقظوا خدمكم يتسحرون لصوم يوم عرفة))) لورود الحديث الخاص في فضل صومه.
- نصف مليون حسنة يوميا :
{ وَنُنَزِّلُ مِنَ القُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَاراً} [الإسراء :82] ..
كيف تتحصل على نصف مليون حسنة يوميا ؟
عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
(((من قرأ حرفًا من كتابِ اللهِ فله به حسنةٌ، والحسنةُ بعشرِ أمثالِها لا أقولُ (الـم) حرفٌ ولكنْ (ألفٌ) حرفٌ و(لامٌ) حرفٌ و(ميمٌ) حرفٌ)).
رواه الترمذي (2910) واللفظ له، وأبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (6/263)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (1983) باختلاف يسير.
ويمكن لخاتم القرآن في عشرة أيام الحصول أن يحصل على نصف مليون حسنة يوميا ، وهذا يتطلب قراءة ثلاثة أجزاء يوميا،وتقسيم التلاوة على الصلوات الخمس.
- أجر ناقتين أو ثلاث فأكثر :
عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال :
(((خَرَجَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ وَنَحْنُ في الصُّفَّةِ، فَقالَ:
أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنْ يَغْدُوَ كُلَّ يَومٍ إلى بُطْحَانَ، أَوْ إلى العَقِيقِ، فَيَأْتِيَ منه بنَاقَتَيْنِ كَوْمَاوَيْنِ في غيرِ إثْمٍ، وَلَا قَطْعِ رَحِمٍ؟ فَقُلْنَا: يا رَسولَ اللهِ، نُحِبُّ ذلكَ، قالَ: أَفلا يَغْدُو أَحَدُكُمْ إلى المَسْجِدِ فَيَعْلَمُ، أَوْ يَقْرَأُ آيَتَيْنِ مِن كِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، خَيْرٌ له مِن نَاقَتَيْنِ، وَثَلَاثٌ خَيْرٌ له مِن ثَلَاثٍ، وَأَرْبَعٌ خَيْرٌ له مِن أَرْبَعٍ، وَمِنْ أَعْدَادِهِنَّ مِنَ الإبِلِ.)))رواه مسلم
- حج وعمرة في مسجدك :
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
(((من صلَّى الصبحَ في جماعةٍ ، ثم قعد يذكرُ اللهَ حتى تطلعَ الشمسُ ، ثم صلَّى ركعتَينِ ، كانت له كأجرِ حَجَّةٍ و عمرةٍ قال : قال رسولُ اللهِ : ( تامَّةً تامَّةً ))) رواه الألباني في صحيح الترغيب
- قيام ليالي الأيام العشر :
لما فيها من نفحات إيمانية ، وبركات إلهية ودعوات مباركات مستجابات. وكان التابعي سعيد بن جبير يقوم تلك الليالي المباركة ويجتهد ، وكان يقول عن تلك الليالي :
(( لاَ تُطْفِئُوا سُرُجَكُم لَيَالِيَ العَشْرِ)) ويقول ((أَيْقِظُوا خَدَمَكُم يَتَسَحَّرُوْنَ لِصَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ)) .
- كثرة الأذكار والتكبير :
قال تعالى: (( وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ)) الحج28 ، وكان الصحابة رضوان الله عليهم يرفعون أصواتهم بالتكبير في الصلوات والأسواق والأماكن العامة ، فعن ميمون بن مهران ، قال:((أدركت الناس وإنهم ليكبرون في العشر، حتى كنت أشبهه بالأمواج من كثرتها ، وسمع مجاهد رجلاً كبّر أيام العشر فقال مجاهد: أفلا رفع صوته؛ فلقد أدركتهم وإن الرجل ليكبر في المسجد فيرتج بها أهل المسجد .
- أداء العمرة في العشر الأوائل :
عن ابن عمر رضي الله عنهما يقول: عمرة في العشر الأول من ذي الحجة أحب إليَّ من أن أعتمر في العشر البواقي .
- أداء فريضة الحج لمن استطاع إليه سبيلا ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
(((العُمْرَةُ إلى العُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِما بيْنَهُمَا، والحَجُّ المَبْرُورُ ليسَ له جَزَاءٌ إلَّا الجَنَّةُ)))
رواه البخاري ومسلم .
وكان الإمام أحمد بن حنبل يتوقف عن الدرس في تلك الأيام العشر ويقول :
(((هذه أيام شغل وللناس حاجات))) وذلك كما ورد في كتاب سؤالات أبى بكر الأثرم لأحمد بن حنبل ص: 39 .
وكان علماء الجرح والتعديل لروايات الأحاديث يتوقفون عن عملهم في هذه الايام العشر خشية الوقوع في خطأ . وقيل لأبي حاتم الرازي يوما وهو يقرأ في كتابه الجرح والتعديل:
(((كم من هؤلاء القوم قد حطُّوا رواحلهم في الجنة منذ مائة سنة، ومائتي سنة وأنت تذكرهم وتغتابهم؟ فبكى عبد الرحمن وَرَعاً ))). كتاب الكفاية للخطيب ص (71)
فالحمد لله الذي بلغنا هذه الأيام العشر ، ونسأله أن يلهمنا فيها الصواب والتوفيق في الفكر والقول والعمل . اللهم امين
د.محمد النجار
الجمعة 1 يوليو 2022
الموافق 2 ذي الحجة1443هـ