داخل كل إنسان منا قوة هائلة يمكنها – بإذن الله – تحقيق ما يظنه بعض الناس مستحيلًا إذا استُخدمت بشكل صحيح، إنها قوة العقل، فالخواطر والأفكار تكون قبل الأقوال والأعمال، وإذا صلح القلب صلح الجسد، وصوم رمضان فرصة عظيمة لزراعة الأفكار الطيبة في نفوسنا، فتُؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، شهر رمضان مدرسة عظيمة نتعلم فيها الصبر والعزيمة، ونزكي أنفسنا وأخلاقنا، ونعزز قدرتنا على التحكم في عقولنا وأجسادنا، وتنظيم حياتنا وأوقاتنا، وتحقيق أهدافنا وإنجاز أعمالنا الدينية والدنيوية بلا تقصير.
■ العقل الواعي يتفاعل مع العقل الباطن، حيث تُزرَع فيه الأفكار والمعتقدات التي تؤثِّر في سلوكنا وحياتنا، فمن المهم أن نركز على التفكير الإيجابي، ونبتعد عن السلبية في الحياة وحل مشاكلها التي لا يسلم منها أحد، فمن كان يعتقد أنه سعيد ولو كان فقيرًا أو مريضًا فسيرضى ويسعد، ومن كان يعتقد أنه غير سعيد ويشكو حاله فسيكون كئيبًا ولو كان غنيًا صحيحًا، والبلاء موكَّلٌ بالمنطق، ومن كان يُقنِع نفسه أنه لا يستطيع فعل شيء من الخير فلن يفعله، ومن كان يُقنِع نفسه أنه لا يستطيع ترك شيء من الشر فلن يتركه، ومن كان يُقنِع نفسه أنه لا يستطيع حل مشاكله فلن يجد حلًا لها، فانظر إلى مَن دونك، وارض بما قدَّر الله لك، واحرص على ما ينفعك، واستعِن بالله ولا تعجز، وغيِّر أفكارك السيئة كي تُغيِّر حالَك، ولا تنس أن ما تكرهه ويشق عليك قد يكون خيرًا لك، فالدنيا دار ابتلاء، والصوم يوجِّه العقل نحو الخير وترك الشر، ويرفع هِمة المسلم لفعل الخير وإن كان شاقًا، ويَفطِمه عن الشهوات والعادات السيئة، كما قال الشاعر:
والنفس كالطِّفلِ إن تُهمِلْه شَبَّ على … حُبِّ الرضاع وإن تَفطِمه ينفَطِمِ
وقال آخر:
والنفس راغبةٌ إذا رغَّبتها … وإذا تُرَدُّ إلى قليلٍ تقنع
■ الإيمان الداخلي والتصور الإيجابي والتفاؤل سبب لتحقيق الإنسان ما يبدو مستحيلًا، فالعقل الباطن يستجيب لما يُغذِّيه الإنسان من أفكار ومعتقدات، ومن رجا الله وأحسن الظن به أعطاه، وحقق ما تمناه، وفي الحديث القدسي: ((أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، فَلْيَظُنَّ بِي مَا شَاءَ))، والصوم يُعزِّز في نفس الصائم العزيمة على التقوى والتوكل على الله في العمل وإن كان شاقًا، والصوم دليلٌ عملي على أننا قادرون على تحمل الصعاب وتحقيق الأهداف بالصبر والمصابرة والتوكل على الله؛ ولذلك نجد بعض الصائمين يفوته طعام السحور، فيصوم ذلك اليوم مهما شق عليه؛ لأن عزيمته في تحقيق ذلك صادقة، وهكذا ينبغي أن يكون الإنسان صادقًا في تحقيق أهدافه، مصممًا على بلوغ مراده، {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3].
■ يذكُر الأطباء أن بعض الأمراض البدنية سببها المشاكل والقلق، وأن للعقل الباطن دورًا كبيرًا في الشفاء من الأمراض المختلفة، والصوم من أسباب الراحة النفسية، وفيه شفاء للقلوب من القلق والهموم، وهو سبب للتعافي من بعض الأمراض البدنية أو تخفيفها، فالصوم سبب عظيم لصحة القلوب والأبدان، ولا يخفى فرح الصائم كل يوم عند فطره، وسعادته بإتمام صومه، والصوم يُعطي المسلمَ عزيمة قوية وإرادة صلبة لتحقيق تقوى الله وشكره، مما يؤدي إلى الراحة النفسية والطمأنينة بذكر الله وعبادته، والصوم يزيد الإيمان بقدرة الله على تيسير الأمور، مما يُرغِّب المسلم في التوكل على الله للتغلب على الصعوبات وتحقيق الأهداف.
■ الصيام يُعلِّمنا ترك التكلف، فمن كان مريضًا أو على سفر فقد أباح الله له الفِطر، وأمره بالقضاء، فالله يريد بنا اليُسر، ولا يريد بنا العسر، فيسِّروا على أنفسكم وعلى غيركم ولا تُعسروا، ولا تُكلِّف نفسك فوق طاقتها، ولا تحزن على ما مضى، لا تتذكر آلامك الماضية، فقد انقضت، وأنت ابن يومك فعِش حياتك، ولا تنس نصيبك من الدنيا، والشيطان يُذكِّرك بكل ما يُحزِنك، فهو عدوٌ لك لا يريد سعادتك، فاستعذ بالله من وساوسه، ولا تقنط من رحمة الله وفضله، وتوقع الأفضل وسيأتيك بإذن الله، وسيجعل الله بعد عُسرٍ يُسرًا متى شاء.
إنَّ البلاء وإن طال الزمانُ به … فالموتُ يقطعه أو سوف ينقطع
■ الصوم يزُكِّي النفوس، ويجعل الإنسان يشعر بجوع المساكين، ويدعوه إلى رحمتهم والإحسان إليهم، وإلى شكر الله على نعمه الظاهرة والباطنة، ومما يستحب للصائم: الإكثار من تلاوة القرآن وذكر الله ودعائه بما يصلح أمور الدين والدنيا، فالصوم يُعلِّم الإنسان الاستعداد للآخرة بالأعمال الصالحة، لا سيما حين يقارن انقضاء أيام رمضان المعدودة بأيام حياته المعدودة، فارحم الناس يرحمك الله، وأحسِن إليهم يُحسن الله إليك، ويُسهِّل أمورك، فرحمة الله قريب من المحسنين، والرجل الصالح الناجح في حياته ليس أنانيًا، فهو يحب للناس ما يُحب لنفسه، ويرغب في خدمة البشرية بما يستطيع، بماله أو علمه أو قوته أو جاهه أو غير ذلك، وهذا من شكر الله على نعمه، وتحقيق الشكر من مقاصد الصيام.
■ رمضان محطةٌ سنوية لتجديد الإيمان، ومدرسة إيمانية يحقق فيها المسلم أمورًا ثلاثة: التقوى والشكر والرَّشاد في دينه ودنياه، كما قال الله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183]، {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 185]، {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 186]، فالصيام فرصة المسلم للتوبة النصوح، وتغيير ما في نفسه ليصلح الله حاله في دينه ودنياه، فالصوم خير وسيلة لتجديد الإيمان وإصلاح الأعمال وحسن الأخلاق، وطريق لتحقيق التقوى والشكر والرشاد في الدين والدنيا والآخرة، {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11]، {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 184].
■ أباح الله للصائمين الرَّفث إلى نسائهم في ليالي الصيام، فالزواج سكَنٌ ومودة، وكل من الزوجين لِباسٌ للآخَر وستر، ومن وجد في لباسه عيبًا يسيرًا لا يمكن إصلاحه فمن الحكمة أن يستمر لابسًا له، فهو خير له من العُري، وبعض الأزواج يسارع إلى الطلاق فيندم، وكذلك بعض الزوجات تطلب الطلاق أو الخلع فتندم، والطلاق يبدأ في العقل عندما يمتلئ بالضغائن، والتفكير في أخطاء الآخر، وعدم التغاضي عنها، والله يحب العفو، وقبول ما تيسر من أخلاق الناس، وإن قصَّروا في حقك، ولست مُكلَّفًا بتغيير طبائعهم وأخلاقهم، إنما عليك النصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والله يهدي من يشاء، والناس مختلفون في الطبائع والأخلاق والأذواق، فخالقِ الناس بخُلُقٍ حَسَن لا سيما من كان قريبًا منك مخالطًا لك، واصبر على أذاهم، والله يحب الصابرين الذين يكظمون غيظهم، ويعفون عمن ظلمهم، وإياك والحقد، ولا تحتقر الآخرين، ولا تكن من المتكبرين، وتذكر ذنوبك وتقصيرك في حق الله الكريم، وكن من المتواضعين، واعف عن الناس يعف الله عنك، وكثير من المشاكل الزوجية وغيرها حلها بالعفو والتغافل والصلح، {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى: 40].
■ يستحب للصائم الاعتكاف وملازمة المساجد عند فراغه من أشغاله، والاعتكاف فرصة للتفكر والإكثار من العبادة والتلاوة وذكر الله، والتفكر بداية الهداية، فراقِب الخواطر التي تمر في قلبك، وفكِّر في الخير يتدفق إليك الخير، ولا ترضى بعمل القليل من الخير مع إمكان الكثير، ارفض الأفكار السيئة التي تؤثر في حياتك، وإياك والوساوس والظن السيء والخوف غير الطبيعي الذي يجعلك فاشلًا في حياتك، فغالب ما يُتوقع لا يقع، ولن يصيبك إلا ما كتب الله لك.
■ الصيام يُعلِّمنا أن الله خلقنا لنعبده كما أمر لا كما نشاء، فيجب أن نستقيم على شرعه بلا بدع ولا تكلف ولا طغيان، ويجب أن نرضى بشرعه وقضائه، وأن نسعى في فعل الخير للناس بقدر الاستطاعة، وقد شرع الله في شهر رمضان زكاة الفِطر الواجبة وإطعام الطعام في الكفارات، ويستحب للصائم الإكثار من الصدقات، وكل معروف صدقة، والله يحب الذين يحسنون إلى عباده ويُسعدونهم، ويُخففون معاناتهم، ومن أفضل الأعمال الصالحة إدخال السرور إلى مسلم، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، والله يحب الغني الشاكر، والفقير الصابر، فإن أصابتك سراء فاشكر، وكن سعيدًا بما كتب الله لك، وإن أصابتك ضراء فاصبر، ولا تكره عبادة الصبر، وكن سعيدًا بما كتب الله عليك، وبذلك تحيا حياة طيبة، والدنيا أمد، والآخرة أبد، وما عند الله خير للأبرار.
ولست أرى السعادة جمع مال … ولكن التقي هو السعيد
كتب الدكتور/ محمد بن علي بن جميل المطري
مع الاستفادة من كتاب/ قوة عقلك الباطن للدكتور جوزيف ميرفي
20 شعبان 1446