من الآفات التي ظهرت واضحةً جليةً خلال مسيرة العمل الإسلامي في العقود القليلة السّابقة، ظاهرة التّطرف في التعامل مع بعض الرموز الدعوية، وأقصد بالتطرف هنا الغلو في المدح، أو الجحود مع المخالف بالقدح، وهذا منهجٌ معوجٌ في ميزان التعامل مع الرّجال، لأنّ الغلو في المدح يفسد الممدوح ويصيبه بأفاتٍ قلّ أن ينجو منها أحد، منها الكِبر والغرور والإعجاب بالنفس، وكلها من أمراضِ القلوب المُهلكة !!
وهذه القداسة التي أحاط بها أبناءُ الحركة الإسلامية بعضَ العلماء أو الرموز الحركية كان لها أثرها السّلبي على هؤلاء الأفراد أولاً، وعلى الدّعوة ثانيًا، ومع أنّ هناك نهياً شرعيًّا عن مدح الناس في وجوههم، بل أمرنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بأن نحثو التراب في وجوه المدّاحين، وفي حديث مرسل قال صلى الله عليه وسلم : ذَبْحُ الرجل أن تزكّيه في وجهه، لأنّك بذلك تقصِم ظهره، ولذا لمّا مدح أحد النّاس عبد الله بن عمر رضي الله عنهما حثا في وجهه التراب .
إلا أننا نجد أحد الرموز بمجرد أن يجلس على المنصّة تنهال عليه كلماتُ المديح، وإذا تكلم سكتَ الجميعُ كأنّ على رؤوسهم الطير، ولو فكّر أحد أن يفتح فمه ولو بشطرِ كلمة رمقته النظرات المستنكِرة من هنا وهناك، حتى يذوب صاحبُها خجلاً من الحرج الشديد الذي أوقع نفسه فيه !!
ومن الغريبِ والعجيب أنك تجد هذا الرمز يتحدّث عن موقف المرأة التي راجعت أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وهو على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن المهور ( إذا صحت الرواية ) ثم لا يتحمل أن يراجعَه أحد فيما يقول، بل لو أنّ أحداً راجعه وأطال المراجعة لعُدّ من المارقين .. الذين يحِلُّ عليهم الغضب إلى يوم الدين .
ولذا لا بُدّ أن نفرّق بين التوقير والتقديس، فالتوقير يستوجبُ الاحترامَ والتقدير مع تحقيق مبدأ ” كلٌّ يُؤخذُ من كلامه ويُرد إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم”، وأنّه لا يوجدُ أحدٌ يمتلكُ الحقيقة المطلقة .
وربما يقولُ قائل : ألم يأمرنا الرسول صلى الله عليه وسلم أن نُنزلَ النّاس منازلهم ؟!
نعم أمرنا أن نُنزلَ النّاس منازلهم، والعلماء قالوا : هذا الحديث يستوجبُ الحكمةَ والعدل، فمن الحكمة إنزالُ الناس منازلهم من الاحترام والتقدير، والعدلُ يقتضي ألا يُسوّى الجاهلُ بالعالم، ولا الفاجرُ بالتقي الصالح . لكن الذي يجب الحذر منه أن نخرج من دائرة الاحترام والتقدير إلى درجة التقديس، التي تقف حجر عثرة في طريق الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر وتقديم النصيحة .
ولنضرِب على ذلك مثلاً : عالمٌ شرعي أو رمزٌ دعوي يجلس بين أتباعه ومريديه، ثم يطلق نكتة تحملُ معاني جنسية، وبدل أن يُنكرَ عليه ذلك لمخالفته الصريحة لهدي النبي صلى الله عليه وسلم، نجد الأتباعَ والمريدين يدخلون في نوبةِ من الضحك الشديد، ولا أدري هل يضحكون على الطرفة أم على أنفسهم !!
وتأمل الأثر السلبي على الدعوة عندما تجد هذا الرمز الدعوي أو العالم الشرعي الذي كان بالأمس تُرفعُ له الرايات .. وتوضع له العلامات، بمجرد أن يخرجَ عن نطاق التنظيم، أو يُدلي بآراء لا تنسجم مع توجه الطائفة التي ينتمي إليها، سرعان ما توجه له السهام، ويتحوّل من قدّيس إلى إبليس .
وهذا عوارٌ في الحكم يُفقِد صاحبه المصداقية، ويجعَله مثار سخرية الآخرين الذين يتتبعون العثرات من أصحاب التوجهات الأخرى .
ولو اتبع هؤلاء منهج الوسطية في التعامل مع النّاس، وفي الحكم عليهم، لما وقعوا في هذا المحظور الذي يُخالف الأسس التي وضعها علماء الحديث في الجرح والتعديل .
ولذلك ترى أثرَ الصدمة بادياً على صفحات الوجوه وحبر الأقلام عندما ينحرف بعض هؤلاء الرموز، ويكون ردّ الفعل عنيفاً للغاية، حيث نخضع للقانون الفيزيائي : لكلّ فعل رد فعلٍ مساوي له في المقدار ومضاد له في الاتجاه . فالمبالغة في المدح لا بد أن يقابلها – بالتأكيد – مبالغة في القدح !
وهذا يرشدنا إلى أن ننزل الناس منازلهم، ولكن لا نرفعهم فوق أقدارهم، حتى إذا تغيرت مواقفهم كانت ردود الأفعال على هذا التحوُّل عادية، وأن نحيي القاعدة التي تقول : إنّ الحيَّ لا تؤمنُ فتنته .
فكم من عالم أو رمز دعوي كانت تذهب بسيرته الركبان، أصبح اليوم خائناً عميلاً ( من وجهة نظر مخالفيه ) !!
وعندما تنظر إلى تقييم الرجال عند عالم كالذهبي تجده يقول عن أبي داود المدني : ثقةٌ مشهور له غرائب تُستنكر. كلمات بسيطة لكنها حاكمة، فالوسطية في الحديث عن الرجال لا تُوقعُ صاحبها في المدح المذموم أو المبالغة فيه، فيكون من المدّاحين الذين يسلك بهم المدح مسالك المنافقين .