غموض الساعات الأخيرة، وحركة الدول المحمومة للحاق بالحدث والمساهمة بتشكيله بدأت تتكشف.
روسيا، إيران، تركيا، أميركا وإسرائيل. الجميع مستنفرون فالحدث تاريخي.
في الحجم، خلاصة المعلومات والتحليل تشير إلى تحولٍ كبير في المنطقة، يشبه تحولات معدودة في القرن الماضي.
البعض يسميه سايكس-بيكو جديد. البعض الآخر قال إنها لحظة شبيهة بخروج الأميركيين من سايغون في فييتنام.
لكنها في جميع الأحوال، اللحظة المفصلية في تشكيل مستقبل الشرق الأوسط الآن.
ماذا حصل؟
سقوط نظام الرئيس بشارالأسد لم يحدث بصورةٍ مفاجئة كما أحداث الساعات الأخيرة. بل أتى نتيجة مسار السنوات الماضية التي أُنهك فيها بالقتال والعقوبات وشدة الضغوط، وضيق خيارات الاستجابة لتداعياتها، ثم كان خطأ أخير في فهم اللحظة.
النقلة الأخيرة كانت قاتلة حين رفض الأسد الدعوات الروسية والتركية للذهاب باتجاه حلٍ سياسي، خصوصاً أن ظروفه الداخلية كانت كلها تشير إلى استحالة القدرة على الدفاع، في ظل توحش إسرائيل في المنطقة، ومساندة واشنطن لها مهما فعلت.
كيف تدحرجت الأحداث؟
في الأسابيع الأخيرة، وبعد ما وصلته الحربان في لبنان وغزة، تلقى الأسد مطالباتٍ من أردوغان وبوتين بضرورة الذهاب بسرعة نحو حلٍ سياسي يجنب سوريا تداعيات التحول الكبير في المنطقة.
تمسك الرجل بموقفه، في حين كانت تسوية كبرى تجري من دون أن يجد مكاناً له فيها، على الرغم من المحاولة الروسية-التركية الأخيرة لإبقائه في اللعبة.
حين زار موسكو في الأيام الأخيرة، كان يطلب المساعدة العسكرية، لكن التدخل الروسي (بالمقدار المطلوب) كان مستحيلاً، فروسيا كانت قد قررت تركه، وكان التصريح الأخير بأنها “لن تدافع إذا كان الجيش السوري لا يريد القتال”.
ما سر الموقف الروسي؟
مع رفع إدارة بايدن وحلفائها مستوى التحدي في أوكرانيا بالسماح لكييف باستهداف العمق الروسي بصواريخ بعيدة المدى، انتقلت المواجهة بسرعة إلى الحد النووي.
اضطرت روسيا إلى بدء تنفيذ تهديداتها عبر إرسال صاروخ “آرييشنيك” إلى قلب أوكرانيا، لكن من دون شحنة نووية.
الخطوة التالية المتوقعة هي صدام مباشر بينها وبين الناتو، والذي سينزلق إلى حربٍ نووية. لكن إدارة بايدن راحلة، وهناك خيار آخر، وهو عقد تسوية الحد الأدنى المرضي مع ترامب.
وهنا تتوجب الدقة الشديدة، كون الموقف الروسي ليس بيعاً مؤامراتياً لسوريا، أكثر من كونه خياراً قاسياً تتجرعه موسكو. لماذا؟
روسيا بحاجة إلى ضمان أمنها القومي من الجهة الغربية. إنهاء الحرب الأوكرانية يحدد مصير روسيا، بينما وجودها في سوريا يحدد جزئياً مكانتها العالمية. لكن الضرورة الآن توجب حفظ الداخل وأمن الحدود.
سوريا بالنسبة لروسيا موطىء قدم على المياه الدافئة كانت تحلم به كاترينا الثانية وكل من خلفها في قيادة الإمبراطورية. وهي في العصر الحالي منطلق لنفوذها المتنامي في أفريقيا، والذي معه تكون روسيا قطباً عالمياً أو لا تكون.
وهي عندما أرادت فتح فرصها على مساحة العالم، تم إشعال أوكرانيا، ثم الآن أُشعلت جورجيا على حدودها الجنوبية لتفتح باب خطرٍ كبير في القوقاز، ثم جاءت حرب نتنياهو على لبنان وخطوة أردوغان في سوريا، لتحاصر المحور الذي يعطي روسيا هوامش للمناورة والضغط على الغرب، وحماية حليفها السوري وحضورها على المتوسط.
كيف نفسر ما حدث فعلياً؟
بالأمس التقى ترامب في باريس بماكرون وزيلنسكي. منطقياً هؤلاء الثلاثة معنيون بالحرب في أوكرانيا وبالأمن الأوروبي وبالعلاقات الأوروبية الأميركية (وفي الناتو أيضاً).
حجم الملفات يستوجب لقاءً طويلاً. لكن اللقاء انتهى بعد قليل من بدايته.
الإشارة منه كانت أن ترامب لا يريد التوسع في نقاش مستقبل أوكرانيا. يريد بسرعة عقد تسوية، وقد أفضى هذا المناخ إلى قوله عبر منصته “تروث” إن زيلنسكي (وأوكرانيا) “يريد عقد صفقة ووضع حد للجنون، لقد فقدوا على نحو عبثي 400 ألف جندي وعدداً أكبر بكثير من المدنيين. يجب أن يكون هناك وقف فوري لإطلاق النار ويجب أن تبدأ المفاوضات”.
هذا ليس كل شيء
منذ أيام زار كبير مستشاري زيلنسكي أندريه يرماك واشنطن للعمل على صيغة للصفقة مع روسيا. وهذا ما يقرّب التسوية أكثر.
ترامب بدوره علّق على ترك الأسد للسلطة بأنه حدث لأن روسيا وإيران تخلّتا عنه. وبذلك يحاول القول إن التعاون الذي يحدث بضغطٍ منه يؤدي إلى نتائج فاعلة.
لكن هل تخلّت الدولتان بالفعل عن الأسد؟
في اليومين الماضيين زار الأسد موسكو لطلب الدعم العسكري في مواجهة الهجوم الذي دعمته تركيا (ومن خلفها الدولة العميقة الأميركية وليس ترامب). لم يكن الرد إيجابياً، في ظل رغبة روسيا بتسهيل مهمة ترامب مع زيلنسكي، وعدم رغبتها بفتح جبهةٍ جديدة على جيشها بالزخم الكافي لحماية النظام. وهذا يفسر أن قصفت بالفعل أرتالاً ومواقع للمسلحين، لكنها لم ترغب بحمل المعركة على عاتقها.
ماذا عن مصالحها في سوريا؟
القاعدتان العسكريتان الروسيتان في سوريا تقعان في منطقة الساحل، وهي مركز الثقل الشعبي للعلويين ولأنصار الأسد. كما أن موجة الهجوم كانت عاتية بصورةٍ لا تستطيع موسكو وقفها من دون أن تحجز لها موارد وجنوداً كثر. وهي بحاجة إلى هؤلاء بشدة.
لذلك، فإن صيغة الحكم المستقبلي في سوريا مهمة جداً في تقرير ما إذا كانت هاتين القاعدتين ستبقيان أم لا.
لكن لموسكو بعض الوقت لتدرس هذه المسألة، خصوصاً إذا وصلت التوازنات إلى تشكيل صيغة فيدرالية للحكم، أو إذا دخلت في حربٍ أهلية طويلة وفوضى داخلية كما توقع نائب رئيس مجلس الاتحاد الروسي قسطنطين كوساتشوف اليوم. هذا يعني أنه من السابق لأوانه القول إن موسكو ستفقد موقعها في روسيا الجديدة. ماذا عن تركيا؟
حرّك أردوغان ورقة الهجوم في توقيتٍ قاتل للجميع. فهو من ناحية، استغل لحظة خروج حزب الله من الحرب مع إسرائيل بضغوط هائلة وخسائر مادية وبشرية قاسية، على الرغم من أنه أثبت أقواله بالأفعال ولم يتعرض للهزيمة.
وجاء التوقيت أيضاً في لحظة تحفّز إسرائيلية لضرب إيران، ومحاولات مضنية للحصول على موافقة ترامب على خوض هذا الرهان.
زيارة سارة نتنياهو فلوريدا وعشاؤها مع ترامب لا شك أنه كان محاولةً ناعمة من زوجها لإقناع الرئيس المنتخب بضرورة اختيار ضرب إيران، بعد فشل اتصالاته العديدة في تحصيل هذا الهدف.
كما وضع أردوغان بهذه الحركة روسيا في موقف قرار أمام احتمالين لا ثالث لهما، القتال إلى جانب الأسد أو القبول بخروجه.
لماذا لم تتدخل إيران؟
الموقف الإيراني بتجنب المشاركة المباشرة في التصدي للهجوم تشير إلى فهم أن التوجه بات أقرب إلى إقفال حرب أوكرانيا وفتح النار عليها. يعزز هذا الاعتقاد تصريح ترامب بخصوص غزة، وتهديده بجحيمٍ كبير غير مسبوق في الشرق الأوسط إذا لم يتم الإفراج عن الأسرى الإسرائيليين (قال حرفيا في الشرق الأوسط ولم يقل شد حماس).
كما وردت إشارات في غير مكان وانعكست في الصحافة عن قابلية نتنياهو لاستخدام الأسلحة النووية فور اندلاع حرب مع إيران.
طهران أيضاً تعلم أن التدخل المباشر لمنع سقوط سوريا كان يستوجب حرباً طويلة وموارد كبيرة، إلى جانب المخاطر الكبرى. وذلك بموازاة الانقسام الداخلي حول خيارات التعامل مع أميركا ومد خيوط تفاوض خلفية معها.
ماذا عن حزب الله؟
لا شك أن التغيير في سوريا يحرم الحزب من خط إمداده.
لكنه أيضاً تلمس فخاً جديداً ينصب له هناك، لتجديد الحرب عليه استناداً إلى نتائج الحرب التي توقفت، والمتغيرات الجديدة في سوريا.
هكذا سيكون إرسال المقاتلين إلى سوريا محفوفاً بالخطر من خمسة أبواب:
⁃شدة الهجوم المدعوم تركياً.
⁃انكشاف كامل من الجو أمام الطيران الإسرائيلي.
⁃قطع خطوط الإمداد.
⁃حصار داخلي لبناني لهذا الخيار.
⁃ المخاطرة بإسقاط اتفاق وقف إطلاق النار مع إسرائيل.
ماذا عن مستقبل سوريا؟
سوريا الجديدة تبدو مبعث قلقٍ الآن في المنطقة، على الرغم من التطمينات التي ترسلها #هيئة_تحرير_الشام بغير اتجاه. الدول العربية القريبة تتوجس من حكم الإسلاميين المتناغمين مع تركيا في دمشق.
الزخم الجديد المدعوم من أنقرة، والذي تحصل على إشارات إسرائيلية إيجابية، يكتسب بالنسبة لهم قدرةً مستجدة على التوسع. لذلك لم تظهر هذه الدول حماسةً لهذه النقلة الجديدة، فيما حشد لبنان والعراق قواتهما عند الحدود لدرء أي انفلات للخطر نحوهما.
قصة سوريا الجديدة في بدايتها، والجميع يبحث الآن عن نقطة التوازن بين مصالح اللاعبين من جهة، ويتمنون أن تستقر سوريا بأسرع وقتٍ ممكن لأن تشظيها سيرسل الحمم خارج الحدود في جميع دول الجوار.
في حسابات اللحظة، تبدو خيارات تركيا وأميركا هي الرابحة، فيما تنتظر إسرائيل جائزةً كبرى يقدمها ترامب لها بأن يختار ضرب إيران بعد إنهاء حرب أوكرانيا.
اللحظة الجيوسياسية خطرة جداً، وهي كما كررت خلال الأشهر الماضية، قابلةٌ لتحرك الحدود، وتغيّر الدول وإعادة تشكلها، بل وحتى نشوء كيانات جديدة.
لكن في المقابل، قلتُ أيضاً إن أي حربٍ أميركية هنا، تفوز بها الصين، الهادئة لتبعد العاصفة.
مختارة من حساب محمد سيف الدين الباحث في العلاقات الدولية، متخصص في شؤون الأمن القومي الروسي. على منصة x