الصراط المستقيم

ليلة النصف من شعبان وغفران الذنوب والاثام

 

 

مع اقتراب ليلة النصف من شعبان، يتجدد الحديث عن فضل هذه الليلة العظيمة التي وردت في النصوص الصحيحة، والتي تفتح فيها أبواب الرحمة والمغفرة. فقد ثبت عن النبي ﷺ أنه قال:

“يَطَّلِعُ اللَّهُ إِلَى جَمِيعِ خَلْقِهِ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، فَيَغْفِرُ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ، إِلَّا لِمُشْرِكٍ أَوْ مُشَاحِن”

رواه ابن ماجه، وصححه الألباني في “صحيح الجامع” 1819.

 

وهذا الحديث يدل على أن المغفرة في هذه الليلة تشمل الجميع إلا من كان مشركًا أو متخاصمًا مع غيره، مما يبرز أهمية التسامح والتصالح قبل دخول هذه الليلة المباركة. فكما أن العبد يرجو مغفرة الله، فعليه أن يطهر قلبه من الأحقاد ويعفو عن الناس حتى ينال هذه الرحمة الإلهية.

 

لكن التسامح ليس مجرد قرار عابر، بل يحتاج إلى تهيئة عقدية ونفسية، لأن النفس بطبيعتها تميل إلى الانتقام ورد الإساءة. وهنا تكمن عظمة التسامح، إذ هو خلق عظيم ثقيل على النفس، لكنه مفتاح لنيل “الأجر العظيم”، أي الجنة التي وُصفت بأنها سلعة الله الغالية، لا ينالها إلا من جاهد نفسه على العفو والتسامح.

 

أولًا: التسامح في ضوء العقيدة الإسلامية

التسامح في الإسلام ليس مجرد تصرف اجتماعي، بل هو انعكاس لعقيدة راسخة، مستمدة من أسماء الله وصفاته، فهو سبحانه العفو الغفور الرحيم الذي يحب أن يتخلق عباده بصفاته.

يقول الله تعالى:

“وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا ۗ أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ” (النور: 22.)

فهذه الآية تجعل العفو والتسامح عبادة تُقرب العبد من المغفرة الإلهية، فكما يحب الإنسان أن يعفو الله عنه، فعليه أن يعفو عن الناس.

كما أن الإسلام قرر أن القوة الحقيقية ليست في الغضب والانتقام، بل في ضبط النفس، كما جاء في حديث النبي ﷺ:

“ليس الشديد بالصُّرَعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب” (متفق عليه)

وهذا يوضح أن التسامح يحتاج إلى تهيئة إيمانية تجعل العبد يدرك أن كبح الغضب والعفو من دلائل القوة الحقيقية.

 

ثانيًا: التهيئة النفسية للتسامح

التسامح ليس مجرد قرار يتخذه الإنسان في لحظة معينة، بل هو ثمرة تربية نفسية طويلة، تبدأ من تقوية الإرادة، وتعويد النفس على الصبر، وكظم الغيظ، والتغافل عن زلات الناس.

وقد أثنى الله على من يصلون إلى هذه المرحلة بقول –عزوجل- :

“وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ” (آل عمران: 134).

فالتسامح يبدأ بكظم الغيظ، ثم يرتقي إلى العفو، ثم يبلغ ذروته بالإحسان، حيث لا يكتفي المسلم بعدم الانتقام، بل يحسن إلى من أساء إليه، ابتغاء وجه الله.

وقد كان النبي ﷺ النموذج الأعلى في التسامح، فعندما دخل مكة فاتحًا بعد سنوات من الأذى والعدوان من قريش، لم ينتقم، بل قال:

“اذهبوا فأنتم الطلقاء” (السيرة النبوية لابن هشام).

وهذا المشهد من أعظم الأمثلة على أن التسامح يحتاج إلى نفس عظيمة لا تحكمها الأهواء، بل يوجهها الإيمان والحكمة.

 

ثالثًا: معاناة النفس في تحمل التسامح وثقل الأمر عليها

من طبيعة النفس البشرية أنها تميل إلى رد الإساءة بالإساءة، وتشعر بالقهر إذا عفت عن من ظلمها، ولذلك كان التسامح من أشق الأمور على النفس، لكنه من أعظمها أجرًا عند الله.

قال الله تعالى:

“وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَٰلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ” (الشورى: 43)

وهذه الآية تبين أن الصبر على الأذى، والمغفرة عند المقدرة، هو من الأمور التي تحتاج إلى عزم قوي، لأن النفس ترفضه بطبيعتها، لكن من ارتقى إيمانه، سهل عليه التسامح، لأنه يرى الجزاء الأعظم في الآخرة.

وقد أخبر النبي ﷺ عن الأجر العظيم لمن يتسامح، فقال:

“وما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزًّا” (مسلم )

فمن يتسامح، يرفع الله قدره في الدنيا قبل الآخرة، لأنه يصل إلى درجة من السمو الروحي تجعله فوق نوازع الانتقام والتشفي.

 

 

رابعًا: التسامح ومقابله

إذا كان التسامح أمرًا ثقيلًا على النفس، فمقابله هو الأجر العظيم، وهو الفوز بالجنة التي قال الله عنها:

“وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ۝ الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ” آل عمران: 133-134.

فهذه الجنة العظيمة، معدة للمتسامحين، لأنهم تخلوا عن حقوقهم الدنيوية طلبًا لمرضاة الله، فوهبهم الله الفردوس جزاءً لصبرهم.

وقد جاء في الحديث القدسي:

“يقول الله عز وجل يوم القيامة: أين المتحابون بجلالي؟ اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي” (مسلم).

فمن تحمل مشقة التسامح، ولم يترك نفسه للانتقام، كان في ظل الله يوم القيامة، وهذه غاية كل مؤمن.

 

كلمة لابد منها..

ليس التسامح محمودًا على الإطلاق:

 

إن العفو والتسامح من مكارم الأخلاق، وهو بلا شك أسمى من مجرد الاقتصاص ورد الحقوق، إذ يقول الله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} (الشورى: 40). وقد بيّن ابن كثير هذا المعنى فقال: “شرع العدل وهو القصاص، وندب إلى الفضل وهو العفو”، مشيرًا إلى أن العفو الذي يصاحبه إصلاح هو العفو الذي يجازى عليه المرء من الله بأجر عظيم.

 

غير أن العفو لا يكون محمودًا في كل حال، بل يصبح مذمومًا إن أدى إلى تفشي الظلم أو جرّ إلى محرم شرعًا. وهنا يتعيّن التمسك بالعدل والانتصاف للحق، فإن الانتقام في موضعه حكمة، كما أن العفو في موضعه فضيلة، وقد قال الشنقيطي:

“إذا قيل حلمٌ، قل: فللحلم موضعٌ ** وحلم الفتى في غير موضعه جهلُ”.

فالحكمة تقتضي وضع كل خُلُقٍ في موضعه، فلا إفراط في التسامح حتى يغدو ضعفًا، ولا غلوّ في العقوبة حتى تتحول إلى ظلم، بل ميزان عدلٍ قوامه البصيرة والتروي.

خاتمة

التسامح خلق عظيم، لكنه يحتاج إلى إعداد نفسي وعقدي، لأنه ثقيل على النفس، لكن مقابله هو الجزاء الأعظم. ومع اقتراب ليلة النصف من شعبان، يجدر بكل مسلم أن يسامح إخوانه، ويجاهد نفسه على العفو، وأن يكون في موضعه، حتى ينال رحمة الله في هذه الليلة المباركة، ويكون من أهل الجنة، فالتسامح جهاد نفس، ثمنه الجنة.

مختارة من مواقع التواصل الاجتماعي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.