بقلم / حاتم السروي
في ظل انتشار السطحية الشديدة ووقوع ما أخبر به النبي سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم من شيوع الجهالة بأمر الدين وقبض العلم بموت العلماء، غابت عن وعي أكثر الناس أسماء مرموقة في عالم الكتابة الدينية بل وفي مجالات العلوم الشرعية؛ فإن أحدنا لو قرر أن يسأل عن محمد فريد وجدي مثلاً لبادره البعض بأسئلة تثير الضحك أو الذهول، من نوعية: هل كان مطرباً؟ وحينها يكون رد الفعل هو الصمت وليس غيره.
ورغم هذا فإن الحديث عن العلماء شرف وبفضله تنزل السكينة وتعمنا البركة ولهذا نتحدث اليوم عن محمد فريد وجدي، ذلك الكاتب المصري ذو الأصول الشركسية والذي ولد في الإسكندرية عام 1878 وتوفي سنة 1954، والذي ترأس تحرير مجلة الأزهر لسنواتٍ عدة وله الكثير من الكتب ذات الصبغة الدينية أو الطابع الوثائقي ومن أهمها كتاب “دائرة معارف القرن الرابع عشر الهجري والعشرين الميلادي” ويقع في عشرة مجلدات، وله أيضاً “صفوة العرفان في تفسير القرآن” وقد أعيد طبعه مراراً، أما عن كتابه الرائع “السيرة المحمدية تحت ضوء العلم والفلسفة” فالحديث لا يمل، وكان رحمه الله مؤمناً بعمق تشهد لذلك كتاباته في المجمل وقد صنف كتاباً في شرح مبادئ الإسلام ودفع الشبهات وسماه “الإسلام دين عام خالد”.
وإيمانه العميق جعله يرشدنا إلى التوافق بين العلم والدين وعدم صحة القول بتنازعهما أو أن أحدهما إذا وجد ذهب الآخر فهما عند المارقين من الملاحدة خصمان لا يجتمعان، أما عند فريد وجدي فإنه بلغته الرصينة وقلمه الفصيح وعلمه الغزير الذي يدفعنا إلى احترامه نراه يخرج لنا كتاباً يسميه “الإسلام في عصر العلم”.
والسؤال الآن: لماذا انتشر الإلحاد بعد كل هذه الكتب وكل هذا العلم الذي جاشت به صدور الرجال؟ والإجابة أولاً أن الله يهدي من يشاء ويضل من يشاء وقد خلق أناساً للنار وبعمل أهل النار يعملون، وخلق أناساً للجنة وبعمل أهلها يعملون، وثانياً أن الملحدين لا يقرأون وتلك حقيقة ينبغي أن نضع تحتها بدلاً من الخط عشرة؛ فالملاحدة يموهون علينا بإدعاء الثقافة وزعم العبقرية مع أنهم لا يقرأون، وإن قرأوا فقراءتهم لا تتعدى صفحات وهم إلى ذلك لا يحسنون فهمها، ونحن نسألهم: هل قرأوا لمحمد فريد وجدي؟ هل قرأوا هذا الكلام الذي أورده في دائرة معارفه على لسان الأستاذ الفرنسي “مونييه” الذي وضع بحثاً خاصاً يثبت فيه وجود الخالق عام 1893 يقول فيه: “إن افترضنا بطريقةٍ ما أن الكون خُلق اتفاقاً بلا فاعل مريد مختار، وأن الاتفاقات المتكررة توصلت إلى تكوين رجل؛ فهل يعقل أن الاتفاقات (المصادفات بلغة الفلاسفة) تكون كائناً آخر مماثلاً له في الشكل الظاهري ومبايناً له في التركيب الداخلي وهو المرأة بقصد عمارة الأرض بالناس وإدامة النسل فيها؟” ويعلق الأستاذ محمد فريد وجدي على هذا البرهان فيقول: إن هذا البرهان الذي ظن الأستاذ “مومنييه” أنه أول من لفت الأنظار إليه هو مستمدٌ من قوله تعالى “ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودةً ورحمة” (الروم: 21).
إن محمد فريد وجدي قامة لم يطوها النسيان بل نحن الذين طوانا الغياب، الغياب عن تاريخنا الحافل بعيون الكتب وخلاصة الرجال، أين ما نحن فيه من محمد فريد وجدي الذي قال عنه العقاد “هو فريد عصره غير مدافع”، أين ما نحن فيه من كاتب حر كان من أنبغ تلامذته العالم الأزهري الدكتور محمد رجب البيومي رئيس تحرير مجلة الأزهر السابق وهو الذي جمع كتابات أستاذ فريد وجدي في كتب بعد أن كانت متناثرة على هيئة مقالات.
لقد تحدث عنه شيخ الأزهر الراحل الدكتور عبد الحليم محمود الإمام الأكبر شيخ الجامع الأزهر فذكر مدى انتفاعه بأحاديثه وجلساته التي كان يعقدها في منزله كل يومٍ بعد صلاة المغرب وكيف أن أحاديثه كانت تتنقل إلى بطون الكتب من طريق تلاميذه ورواد صالونه الثقافي، حيث يقومون بتسجيل ما انتفعوا به منه على هيئة أفكار تخرج للناس في الكتب والمجلات، ويذكر الدكتور محمد رجب البيومي أن أستاذه كان واحداً من ثلاثة حظيت كتبهم بالترجمة إلى كثير من لغات البلاد الإسلامية وهم : الشيخ طنطاوي جوهري، والكاتب محمد فريد وجدي، والسيد محمد رشيد رضا.
وكان الكاتب الراحل فريد على جانبٍ كبير من دماثة الخلق وتحمل طبائع الناس فكان لا ينتصر لنفسه أبداً، وقد حكي عنه أنه كان يتناقش مع السيد محمد رشيد رضا في مسألة ولما احتدم الجدال صاح فيه السيد رضا قائلاً: أنت جاهل؛ فسكت رحمه الله ولم يرد وانتهى الموقف ولما سأله أحد تلاميذه قال: أنا والشيخ رشيد رضا في خندق واحد ولنا فكرٌ مشترك، وإذا كنا ننادي بالرفق مع خصوم الإسلام لنستدرجهم إلى سماع ما لدينا؛ فإن الرفق مع أصحاب الاتجاه الواحد أدعى وأولى. ومرة أخرى يراسله عامل بريد مسيحي بعشر رسائل كل واحدة منها زهاء ست صفحات ويخوض في الإسلام؛ فيرد عليه كاتبنا ويبعث بالردود إلى بريده الخاص، وقد سألوه عن سبب عدم نشر هذه الردود فقال أخاف أن يحدث نشرها بلبلة عند إخواننا المسيحيين ونحن نراعي مشاعرهم؛ فأي إنسان كان هذا؟ لا شك أنه كان ملاكاً مجنحاً، وكان رحمه الله كل ما بعث رداً زاد العامل من رسائله وسؤالاته وهو يجيب كل مرة بلا ضيقٍ ولا تململ ويقول: إن الكاتب لا يكتب وفق إرادته بل هو كالجندي كلما جدت معركة خاضها بقلمه متحملاً للواجب قائماً بالمسئولية.
وكان لا يرى نفسه أبداً ولا يغريه المديح بالتكبر والاغترار بل ظل يسير في حياته الحافلة المباركة بكل ما يقربه إلى الله ورسوله من الأخلاق النبيلة والسجايا الكريمة.
وقد صنف كتاباً علمياً في الرد على طه حسين سماه “نقد الشعر الجاهلي” وللراحل أيضاً كتاب “مهمة الإسلام في العالم” أما كتابه الذي أشرنا إليه في صدر هذا الموضوع وهو “صفوة العرفان في تفسير القرآن” فهو موجود ومنتشر ويعرف باسم “المصحف المفسر”.
رحم الله الأستاذ محمد فريد وجدي ونسأله تعالى أن يعلمنا ما ينفعنا وأن ينفعنا بما علمنا؛ فالعلم يصلح الدنيا ويمهد الطريق إلى الآخرة.