مصر… حين يتكلّم التاريخ بلغتها

بقلم: مواطن مصري يرى في ضوء الأهرام نبض الإنسانية الخالد
ليست مصر مهدَ الحضارة فحسب، بل هي روح التاريخ ذاته، ونبضُ الزمان حين أراد أن يدوّن نفسه بحروفٍ لا تزول.
في الأول من نوفمبر، حين فُتحت أبواب المتحف المصري الكبير، لا تُفتح فقط قاعات الحجر والذهب والبردي، بل تُفتح ذاكرة البشرية على مصراعيها لتتأمّل وجهاً لا يشيخ… وجه مصر التي لم تمرّ عليها الحضارة، بل مرّت الحضارة منها وإليها.
في هذا اليوم المهيب، يطلّ المتحف كجبلٍ من نورٍ عند سفح الأهرامات، إتجهت أنظار الأرض إلى القاهرة، لا كمدينةٍ تُقيم حدثاً، بل كـعاصمةٍ أبديةٍ للحكمة والجمال.
يأتي الرؤساء وقادة العالم من الشرق والغرب، لا لمجرد احتفال، بل ليقفوا أمام أمةٍ تشهد لها الصخور قبل السجلات، وأمام تاريخٍ كتبَ نفسه على جدرانها بدم وعبقرية الإنسان المصري.
الذاكرة الإنسانية
إنه يومٌ تلتقي فيه الذاكرة الإنسانية كلها في قلبٍ واحد؛ من حضاراتٍ سكنت المتاحف الأخرى، تأتي لتُحيّي أصلها الأول ومن عواصمَ طوتها العصور، تتوافد القلوب لتُسلّم على مصر… التي لم تكن يوماً مشهداً في كتاب التاريخ، بل كانت المؤلف الأول لتلك الملحمة الكبرى.
على رُخام المتحف المصري الكبير، تتناثر قصص الملوك، والعمال والبنّائين، والأمهات اللواتي قدّمن أبناءهن لبناء الأبدية في كل قطعةٍ من حجرٍ أو ذهبٍ أو برديٍّ مكتوبٍ بالحكمة، يهمس صوتٌ يقول: “هنا كانت البداية، وهنا لا نهاية”
كما أشرقت مكتبة الإسكندرية يوماً كمنارةٍ للحكمة تُضيء شواطئ البحر المتوسط، ها هو المتحف المصري الكبير يرتقي اليوم كمنارةٍ جديدة للتنوير الإنساني هناك، كانت الكلمةُ تُنقذ العالم من الجهل، وهنا، تُعيد الصورةُ والتمثال والرمزُ تعريف معنى الخلود فالمكتبة كانت عقل مصر والعالم المفكّر، والمتحف هو قلبها الذي ما زال يخفق عبر آلاف السنين.
رسالة مصر الأزلية
ليس صدفةً أن يُقام هذا الصرح عند سفح الأهرامات؛ فالمكان يختزل رسالة مصر الأزلية:
أن العظمة لا تُشيَّد لتُرى، بل لتُورَث وأنّ ما بنته الأيدي على ضفاف النيل ما زال يبني الوجدان في ضفاف الأرض كلها.
فبينما يلتقط العالم صور الافتتاح، يلتقط المصريون لحظة فخرٍ لا تُقدّر بثمن، لأنهم يدركون أن ما يُعرض في المتحف ليس الماضي، بل هوية الأمة التي لم تنكسر رغم تغيّر الزمان.
في هذا اليوم العظيم، حين تصافح الحضارةُ الحديثةُ جذورَها الأولى، تشهد الأرض أن مصر لم تروِ التاريخ… بل ربّته صغيراً، وعلّمته النطق والفنّ والفكر ومن حول المتحف، تصدح الأصوات بلغاتٍ مختلفة، لكنّها تتفق في معنى واحد: أن العالم مدينٌ لهذه الأرض، وأنه مهما تقدّم، سيظلّ يعود إليها ليجد ذاته الأولى.
سيقول المؤرخون بعد مئة عام: في عام 2025، أعادت مصر تعريف التاريخ
فالمتحف لم يكن مجرّد مبنى يضمّ القطع الأثرية، بل قصيدة من حجارةٍ تتغنّى بالبشرية نفسها.
وسيتحدث الأبناء للأحفاد عن ذلك اليوم الذي شهد فيه العالم أن مصر ما زالت المعلّمة الأولى، والقدوة التي لا تشيخ.
سيبقى المتحف المصري الكبير شاهدًا جديدًا على أن روح مصر أكبر من الزمن؛ فهي لا تُقاس بالعصور، بل بالعطاء وحين تنطفئ أنوار المدن يوماً، سيبقى ضوء مصر مشعلاً لا يخبو، لأن في تاريخها من حِكمة الخلود ما يجعلها تبتسم في وجه الدهر كمن يعرف أن المجد وُلد باسمه.
مصر، أيقونةَ التاريخ
حين يفتح المتحف أبوابه للعالم، ستُغلق كلّ أبواب النسيان وسيعرف الجميع أن الحضارة ليست ما نحتفظ به في القاعات، بل ما نحمله في القلب حين ننتمي إلى أرضٍ تُعيد تعريف الإنسانية كلّ يوم.
هكذا تكتب مصر من جديد فصلها الأجمل… لا في كتب التاريخ، بل في ذاكرة العالم.
كتبه / السفير د. أحمد سمير
عضو هيئة ملهمي ومستشاري الأمم المتحدة
السفير الأممي للشراكة المجتمعية
رئيس مؤسسة الحياة المتزنة العالمية







