مفهوم الكون الكبير .. (43) حول الكون في الدار الآخرة
الحلقة الأولى: مدخل عام وحياة البرزخ
بقلم: د.سعد كامل
مدخل عام:
الحمد لله الذي أرسل رسوله المختار عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، أرسله بالقرآن الكريم، فيه خبر ما كان قبلنا، وحكم ما بيننا، ونبأ ما بعدنا حقا وصدقا وبيانا… ففي هذا الكتاب المبين تفصيلات من أخبار السابقين للعبرة والاتعاظ، وفيه من الأحكام في العبادات والمعاملات ما يجعله دستورا للأولين والآخرين، كما يتضمن القرآن الكريم أوصافا لليوم الآخر وما سيحدث فيه من أهوال وتغييرات للكون الكبير، فيقدم بيانا واضحا للغيب الزماني (أي الأمور التي يشير القرآن الكريم أنها سوف تحدث يوم القيامة وتعتبر بالنسبة لنا غيبا زمانيا لأنها لم تقع بعد)، كما تتضمن آيات القرآن والأحاديث النبوية المطهرة الكثير من الأمور التي تعيننا على فهم طبيعة الكون حاليا ومنها ما نعتبره غيبا مكانيا (أي أنه موجود حاليا لكننا لا نراه ولا نستطيع معرفة أية تفاصيل عنه بوسائل الدراسة المتاحة للبشرلأنه خارج الكون المدرك الذي تطاله أجهزة الرصد والاستكشاف)، فمن أراد الدنيا فعليه بالقرآن، ومن أراد الآخرة فعليه بالقرآن كما قال صلى الله عليه وسلم.
ناقش الباحث في مقال سابق عملية التفكر في مفهوم الكون الذي يعتبر من أوسع أبواب التفكر، فهو ديدن أولي الألباب الذين ذكرتهم آيات التفكر في سورة آل عمران: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191)) فأولي الألباب يتفكرون في خلق السماوات والأرض، ثم يقرون بأن الله سبحانه لم يخلق هذا باطلا فيعوذون به سبحانه من عذاب النار، ويرى الباحث الحالي أن أولي الألباب بعد أن يعرفوا أن الجنة موجودة في السماوات العلى، وأن النار موجودة في أسفل سافلين… يأتي منهم الإقرار بأنه سبحانه ما خلق تلك الجنات في السماوات العلى باطلا، وهذا نوع راق من الأدب في الطلب بأن ينعم الله عليهم بدخولها، ثم يتعوذون من النار والعياذ بالله.
وقبل الدخول في مناقشة تفاصيل ما ذكر في القرآن الكريم وفي السنة النبوية المطهرة عن أوصاف اليوم الآخر الذي يعتبر الإيمان به من أركان الإيمان -كما نعلم جميعا-، هيا أيها القاريء الكريم نتجول أو نتفكر بين جنبات ذلك اليوم العظيم، وقد أنعم المولى عز وجل على كاتب هذه السطور باقتراح مخطط الكون الكبير (الشكل المرفق أعلاه) الذي تتضح فيه أن السماوات السبع والأرضين السبع عبارة عن سبعة كرات متداخلة (أي متحدة المركز)، وأن النصف العلوي من تلك السماوات يمثل جنة الخلد، بينما النصف السفلي منها بعيدا عن العرش يمثل النار أعاذنا الله منها، وأن الكرسي يحيط بالسماوات السبع مجتمعة (السماوات العلى والأرضين السبع)، والكرسي بين يدي العرش المجيد (الذي يمثل 98.85% من الكون الكبير)، وقد ناقشنا تفاصيل ذلك المخطط في المقال التاسع من هذه السلسلة بعنوان: “استكمال مفهوم الكون الكبير”، وقد أشار ذلك المقال إلى الأدلة التي تفيد استنتاج تلك المفاهيم، والآن هيا بنا إلى جولة مع الكون في يوم القيامة:
1) اتساع كلا من الجنة والنار:
أول ما نتوقف عنده من تفاصيل اليوم الآخر ما يمكن فهمه من القرآن ومن السنة أن الجنة واسعة اتساعا هائلا، كما ورد في مختصر تفسير ابن كثير لقوله تعالى من سورة المطففين: (إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24)) جاء في مختصر تفسير ابن كثير: “أي ينظرون إلى ربهم”، وكما جاء عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إنِّي لأَعْلَمُ آخِرَ أهْلِ النَّارِ خُرُوجًا مِنْها، وآخِرَ أهْلِ الجَنَّةِ دُخُولًا الجَنَّةَ، رَجُلٌ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ حَبْوًا، فيَقولُ اللَّهُ تَبارَكَ وتَعالَى له: اذْهَبْ فادْخُلِ الجَنَّةَ، فَيَأْتِيها فيُخَيَّلُ إلَيْهِ أنَّها مَلْأَى، فَيَرْجِعُ فيَقولُ: يا رَبِّ، وجَدْتُها مَلْأَى، فيَقولُ اللَّهُ تَبارَكَ وتَعالَى له: اذْهَبْ فادْخُلِ الجَنَّةَ، قالَ: فَيَأْتِيها، فيُخَيَّلُ إلَيْهِ أنَّها مَلْأَى، فَيَرْجِعُ فيَقولُ: يا رَبِّ، وجَدْتُها مَلْأَى، فيَقولُ اللَّهُ له: اذْهَبْ فادْخُلِ الجَنَّةَ، فإنَّ لكَ مِثْلَ الدُّنْيا وعَشَرَةَ أمْثالِها، أوْ إنَّ لكَ عَشَرَةَ أمْثالِ الدُّنْيا، قالَ: فيَقولُ: أتَسْخَرُ بي، أوْ أتَضْحَكُ بي، وأَنْتَ المَلِكُ؟ قالَ: لقَدْ رَأَيْتُ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ ضَحِكَ حتَّى بَدَتْ نَواجِذُهُ. قالَ: فَكانَ يُقالُ: ذاكَ أدْنَى أهْلِ الجَنَّةِ مَنْزِلَةً.)) رواه مسلم رقم 186.
فانظروا أيها الأحباب -وعدنا الله وإياكم بهذا النعيم- انظروا إلى هذا الاتساع الهائل لمُلك أدنى أهل الجنة منزلة… فكيف يكون مُلك أعلاهم منزلة؟ وانظروا إلى أعداد الثقلين من الإنس والجن منذ بدأ الخلق إلى يوم القيامة، حيث تشير الأخبار أن لكل عبد من عباد الله بيت في الجنة وبيت في النار، فإذا دخل الكافر النار يرث المؤمنون منازل هؤلاء الكافرين كما ذكر ذلك مختصر ابن كثير في تفسير قوله تعالى من سورة المؤمنون: (الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11))، فكم يكون اتساع ذلك المكان العظيم؟
وعلى الجانب الآخر، نجد أن أوصاف الكفار الذين يدخلون النار -والعياذ بالله- تكون أجسامهم ضخمة جدا، ويتضح ذلك في ما رواه الإمام مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ضرس الكافر أو ناب الكافر مثل أحد، وغلظ جلده مسيرة ثلاث))، وأعداد من يدخلون جهنم لا تحصى فبعث النار كما جاء في الحديث 999 من كل ألف، وفوق ذلك لا تمتلئ جهنم بما فيها بل وتطلب المزيد، قال تعالى في سورة ق: (يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30))، وعليه يمكننا أن نستنتج أن النار واسعة كما أن الجنة واسعة، ولعل ذلك يتضح على صورة مخطط الكون المقترح (الشكل المرفق أعلاه)، وكما نعرف أن مساحة أسطح الكرات المتداخلة تزداد بعدا عن المركز بالتالي فإن مساحة أسطح الأرضين فوق كل سماء تزداد لأعلى ولأسفل أيضا، فإذا كانت السماوات تصير كلها جنانا والأرض كلها نار يوم القيامة، كما جاء في تفسير قوله تعالى من سورة إبراهيم: (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48))، فإن كلا من الجنة والنار واسعة اتساعا فوق كل خيال في ضوء الأدلة المذكورة أعلاه،،، والله أعلم.
2) بنود العهد:
أخذ المولى عز وجل العهد بالإيمان به سبحانه وتعالى من ذرية آدم في عالم الذر كما جاء في قوله تعالى من سورة الأعراف: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172))، فالعهد واضح منذ أن كنا نطفا في ظهور آبائنا منذ القدم، أننا جميعا من ذرية آدم عليه السلام شهدنا على أنفسنا بأن الله تبارك وتعالى هو ربنا، فمن ضل بعد ذلك فلا يلومن إلا نفسه، ويؤكد ذلك قوله تعالى في سورة البلد: (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10)) فهذا هو طريق الإيمان، وذاك هو طريق الكفر… فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، ومن كفر فلا يلومن إلا نفسه، فمن يضل فله الهاوية، ومن فاز فله الحسنى وزيادة.
وقد جاء في سورة الصافات ادعاء الكافرين أن الملائكة بنات الله كما في قوله تعالى: (أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ (150) أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (152))، ويقول مختصر تفسير ابن كثير أن هذه الآية تتضمن ثلاثة ذنوب عظيمة قام بها المشركين: (1) جعلهم الملائكة إناثا، (2) إدعاء أنهم بنات الله، (3) عبادتهم للملائكة. ثم يعقب أن كل جريمة من تلك الجرائم تكفي وحدها للخلود في جهنم، نعم فإن الشرك أعظم الذنوب.
كما جاءت أسباب مصير الكافرين إلى الجحيم ضمن قوله تعالى من سورة المطففين: (كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ ( كِتَابٌ مَرْقُومٌ (9) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13) كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14))، ويقول مختصر تفسير ابن كثير أن مصيرهم إلى سجين أي سجن ضيق، وأنه مسجل في كتاب مرقوم أي مختوم ومفروغ منه لا ينقص منه أحد، وأن مصيرهم هذا للأسباب التالية: التكذيب بيوم الدين؛ والاعتداء في الأفعال مثل تعاطي الحرام، واقتراف الإثم في الأقوال فإذا حدث كذب، وإن وعد أخلف، وإن خاصم فجر؛ والتكذيب بالوحي واعتباره من الأساطير؛ وتوضح الآيات أن سبب ذلك التكذيب والمصير المهين هو الران الذي يعلو قلوبهم بما اقترفوه من ذنوب وآثام.
فهذه أيها القارئ الكريم أسباب مصير الكافرين إلى الجحيم، فمن آمن وصدق ولم يعتدي في الأقوال والأفعال فهؤلاء هم أصحاب القلوب الطاهرة، وهم من يستحقون الفوز بجنات النعيم بفضل الله تبارك وتعالى، وبذلك تتضح بنود العهد والميثاق الذي أخذه الخالق عز وجل على البشر من أبد الآبدين، فمن شاء فليؤمن وله الجنة ومن شاء فليكفر وله العذاب.
3) صعود الروح وحياة البرزخ:
من فضل الله عز وجل علينا أن بعث فينا رسوله الكريم هاديا ومبشرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، وقد أدى -عليه الصلاة والسلام- الأمانة وبلغ الرسالة أحسن ما يكون الأداء والتبليغ، فأوضح لنا ما نصير إليه بعد الموت في حياة القبر أو البرزخ (الذي يشير لما بين الموت والبعث أو ما بين الدنيا والآخرة)، وقد نقل الصلابي (2011) عن كتاب الروح لابن القيم: أن الله تعالى قد جعل الدور ثلاثا: دار الدنيا، ودار البرزخ، ودار القرار، وجعل أحكام دار الدنيا على الأبدان والأرواح تبعا لها، وأحكام البرزخ على الأرواح والأبدان تبعا لها، فإذا كان يوم حشر الأجساد وقيام الناس من قبورهم صار الحكم والنعيم أو العذاب على الأرواح والأجساد ظاهرا أبديا أصلا.
-حديث صعود الروح الطيبة: روى الإمام أحمد (17803) عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ عن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( إِنَّ الْعَبْدَ الْمُؤْمِنَ إِذَا كَانَ فِي انْقِطَاعٍ مِنْ الدُّنْيَا وَإِقْبَالٍ مِنْ الآخِرَةِ نَزَلَ إِلَيْهِ مَلائِكَةٌ مِنْ السَّمَاءِ بِيضُ الْوُجُوهِ كَأَنَّ وُجُوهَهُمْ الشَّمْسُ مَعَهُمْ كَفَنٌ مِنْ أَكْفَانِ الْجَنَّةِ وَحَنُوطٌ مِنْ حَنُوطِ الْجَنَّةِ حَتَّى يَجْلِسُوا مِنْهُ مَدَّ الْبَصَرِ ثُمَّ يَجِيءُ مَلَكُ الْمَوْتِ عَلَيْهِ السَّلام حَتَّى يَجْلِسَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَيَقُولُ : أَيَّتُهَا النَّفْسُ الطَّيِّبَةُ اخْرُجِي إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ قَالَ : فَتَخْرُجُ تَسِيلُ كَمَا تَسِيلُ الْقَطْرَةُ مِنْ فِي السِّقَاءِ فَيَأْخُذُهَا فَإِذَا أَخَذَهَا لَمْ يَدَعُوهَا فِي يَدِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ حَتَّى يَأْخُذُوهَا فَيَجْعَلُوهَا فِي ذَلِكَ الْكَفَنِ وَفِي ذَلِكَ الْحَنُوطِ وَيَخْرُجُ مِنْهَا كَأَطْيَبِ نَفْحَةِ مِسْكٍ وُجِدَتْ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ قَالَ : فَيَصْعَدُونَ بِهَا فَلا يَمُرُّونَ يَعْنِي بِهَا عَلَى مَلإٍ مِنْ الْمَلائِكَةِ إِلاّ قَالُوا مَا هَذَا الرُّوحُ الطَّيِّبُ فَيَقُولُونَ فُلانُ بْنُ فُلانٍ بِأَحْسَنِ أَسْمَائِهِ الَّتِي كَانُوا يُسَمُّونَهُ بِهَا فِي الدُّنْيَا حَتَّى يَنْتَهُوا بِهَا إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَيَسْتَفْتِحُونَ لَهُ فَيُفْتَحُ لَهُمْ فَيُشَيِّعُهُ مِنْ كُلِّ سَمَاءٍ مُقَرَّبُوهَا إِلَى السَّمَاءِ الَّتِي تَلِيهَا حَتَّى يُنْتَهَى بِهِ إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : اكْتُبُوا كِتَابَ عَبْدِي فِي عِلِّيِّينَ وَأَعِيدُوهُ إِلَى الأَرْضِ فَإِنِّي مِنْهَا خَلَقْتُهُمْ وَفِيهَا أُعِيدُهُمْ وَمِنْهَا أُخْرِجُهُمْ تَارَةً أُخْرَى ، قَالَ: فَتُعَادُ رُوحُهُ فِي جَسَدِهِ فَيَأْتِيهِ مَلَكَانِ فَيُجْلِسَانِهِ ….فذكر الحديث في سؤال القبر.
-ثم ذكر قبض روح الكافر ثم قال : ( فَيَصْعَدُونَ بِهَا فَلا يَمُرُّونَ بِهَا عَلَى مَلإٍ مِنْ الْمَلائِكَةِ إِلا قَالُوا مَا هَذَا الرُّوحُ الْخَبِيثُ فَيَقُولُونَ فُلانُ بْنُ فُلانٍ بِأَقْبَحِ أَسْمَائِهِ الَّتِي كَانَ يُسَمَّى بِهَا فِي الدُّنْيَا حَتَّى يُنْتَهَى بِهِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَيُسْتَفْتَحُ لَهُ فَلا يُفْتَحُ لَه ، ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ ) فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ اكْتُبُوا كِتَابَهُ فِي سِجِّينٍ فِي الأَرْضِ السُّفْلَى فَتُطْرَحُ رُوحُهُ طَرْحًا ثُمَّ قَرَأَ : (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنْ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ ) فَتُعَادُ رُوحُهُ فِي جَسَدِهِ وَيَأْتِيهِ مَلَكَانِ فَيُجْلِسَانِهِ..) ثم ذكر سؤال القبر صححه الألباني في “صحيح الجامع” (1676).
فالروح الطيبة تخرج بسهولة، ثم يصعد بها للسماء السابعة وتفتح لها أبواب السماء، ويحتفي بها أهل كل سماء، ويكتب كتاب صاحبها في عليين، بينما الروح الخبيثة روح الكفار، فتنزع بعد أن يضربه الملائكة، ولا تفتح لها أبواب السماء وتطرح طرحا وتهوي إلى الأرض السفلى، ويكتب كتابه في سجين.
مستقر الأرواح في حياة البرزخ: يذكر الصلابي (2011) أنه هناك اختلاف بين الأرواح من حيث مستقر كل منها:
-أرواح الأنبياء تكون في خير المنازل في أعلى عليين، في الرفيق الأعلى، وقد سمعت السيدة عائشة الرسول صلى الله عليه وسلم في آخر لحظات حياته يقول: ((بل الرفيق الأعلى)) رواه البخاري في كتاب الرقائق.
-اما أرواح الشهداء فقد جاء عنهم في القرآن الكريم قوله تعالى من سورة آل عمران: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169))، وقد جاء في مختصر تفسير ابن كثير أن الشهداء وإن قتلوا في هذه الدار، فإن أرواحهم حية مرزوقة في دار القرار، ونقل مسلم في صحيحه عن مسروق قال: سألنا عبد الله عن هذه الآية، فقال: أما إنا قد سألنا عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((أرواحهم في جوف طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش، تسرح من الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى تلك القناديل)) رواه مسلم – رقم 1887.
-وأرواح المؤمنين في الجنة أيضا حيث روى الإمام أحمد عن الإمام الشافعي عن الإمام مالك عن الزهري بن كعب بن مالك عن أبيه رضي الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه)) سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني – رقم 995. ونلاحظ الفرق بين أرواح الشهداء وأرواح عموم المؤمنين أن الشهداء في حواصل طير خضر تسرح متنقلة في رياض الجنة، وتأوي إلى قناديل معلقة بالعرش، أما أرواح المؤمنين فإنها في أجواف طير يعلق في ثمر الجنة ولا ينتقل في أرجائها.
أما عن أرواح الكافرين فقد جاء في مختصر تفسير ابن كثير حول قوله تعالى في سورة النحل: (فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29)) قوله: أي بئس المكان من دار هوان لمن كان متكبرا عن آيات الله واتباع رسله، وهم يدخلون جهنم من يوم مماتهم بأرواحهم، وينال أجسادهم في قبورهم من حرها وسمومها، فإذا كان يوم القيامة سلكت أرواحهم في أجسادهم، وخلدت في نار جهنم.
الخلاصة:
يشير مخطط الكون الكبير (الشكل المرفق أعلاه)، الذي يطرحه البحث الحالي للتمحيص توطئة لتطبيقه في المجالات ذات العلاقة، يشيرذلك المخطط إلى أن الجنة في السماوات العلى باتجاه العرش المجيد، وأن النار في الأرضين السبع السفلى بعيدا عن العرش، وبذلك تكون الجنة والنار غيبا مكانيا في الوقت الحاضر، كما أن أحداث القيامة تعتبر غيبا زمانيا لأنها لم تقع بعد، لكننا نؤمن بكلا الجانبين من الغيب كالحقيقة سواء بسواء.
وقد ذكر المقال الحالي أدلة شرعية على اتساع الجنة والنار، وذلك يتفق مع المخطط المذكور، أما ضيق النار فيعتبر وصفا للعذاب فيها لأن الكافر يدخل في مكان ضيق مما يزيد الشعور بالعذاب، حفظنا الله منه جميعا. كما ذكر المقال صعود الروح المرتبط بالسماوات التي تفتح أبوابها لأرواح المؤمنين حفاوة بينما لا تفتح لأرواح الكافرين وترد لأسفل سافلين، كما أن حياة البرزخ تختلف حيث تأوي أرواح المؤمنين إلى الجنة، أما أرواح الكافرين ففي سجين.
المراجع:
- مراجع التفسير والحديث الشريف المذكورة في النص.
- الصلابي، ع (2011): سلسلة أركان الإيمان، (5) الإيمان باليوم الآخر (فقه القدوم على الله)، دار المعرفة، بيروت – لبنان، 435 ص.
- كامل، س. (2022): سلسلة مفهوم الكون الكبير، المقال رقم 9: استكمال مفهوم الكون الكبير، موقع وضوح الإخباري.
بقلم: د.سعد كامل
أستاذ مشارك في الجيولوجيا – الإسكندرية – مصر
saadkma2005@yahoo.com