هل منظومة هارب الأمريكية يمكن أن تفتعل زلازال وأعاصير؟
بقلم د. سعد كامل
استيقظ العالم فجر الاثنين السادس من فبراير 2023 على أنباء الزلزال الشديد على الحدود التركية السورية، ونشطت أجهزة الإعلام في متابعة أخبار ضحايا الزلزال، وكذلك انطلقت صفحات التواصل في تفسير سبب وقوع الزلزال، واجتهد البعض في ترتيب الشواهد التي تؤكد لغير المتخصصين في علوم الجيولوجيا والجيوفيزياء والجغرافيا أن هذا الزلزال مفتعل بواسطة منظومة هارب السرية الأمريكية، فأصبح الكثير من البشر يلقون باللوم على العملاق الأمريكي قائد قوى الشر في العالم، الذي يمكنه افتعال الزلازل والأعاصير وغيرها من النكبات بهدف نشر الفوضى في أماكن بعينها لزعزعة الأرض تحت أرجل أهلها ليفقدوا الثقة فيمن يحكمهم ويتوقفوا عن دعمه في أية ممارسات ديمقراطية لاحقة.
ولا يلوم كاتب هذه السطور على البسطاء من الناس الذين وقعوا في شباك تلك الإشاعات نظرا لبراعة من ينشرونها في ترتيب الأدلة وتغيير الأوصاف بما يجعل المستمع يهتف ضد أمريكا وضد قوى الشر في العالم، لكن اللوم يقع بصفة أساسية على العلماء الذين لديهم بعض العلم في هذا الخصوص، فمثلا يدرس طلاب الجغرافيا بكليات الآداب في المقررات التمهيدية لعلوم الجغرافيا المناخية والجيومورفولوجيا أن البشر لا قبل لهم بالتصدي للظواهر الطبيعية الكارثية مثل: انتشار الجليد، وتوسع الصحارى الحارة، وازدياد الجفاف، وتغير منسوب سطح البحر، وحدوث الأعاصير والزلازل وانفجار البراكين…. وغير ذلك من الكوارث الطبيعية…. ولا يملك البشر في ذلك إلا الوقوف منبهرين أو عاجزين أمام ما يحدث من كوارث، فإذا كان بإمكانهم استغلال تلك الأوضاع لتنشيط السياحة مثل: التزلج على الجليد، واستغلال درجات الحرارة المرتفعة في الصحارى لعمل منتجعات للاستشفاء… بينما يكون الحال في غير ذلك من الأمور هو ازدياد نشاطات الإنقاذ وإعادة إصلاح ما أفسدته تلك الكوارث، وتعويض المصابين والضحايا.
وفي حالة الزلزال التركي-السوري صب مروجي الشائعات حملاتهم على مشروع هارب السري الأمريكي دون غيره من المشاريع المشابهة في النرويج واستراليا وروسيا، ونادوا أن هذا المشروع هو سبب كل المصائب في الكرة الأرضية لأنه يمكنه أن يغير المناخ وينشيء الأعاصير وينشط الزلازل.
بناء على ما تقدم سوف تتناول السطور التالية مناقشة طبيعة مشروع هارب (نشأته وآليات العمل فيه وتأثيراته)، مع عرض أفكار المنتقدين للمشروع، ثم نتناول بعض الردود المنطقية على هذه الأفكار…. لكن نبدا باستعراض طبقات الغلاف الجوي للكرة الأرضية الذي يعتبر مسرح عمليات هارب.
أقسام الغلاف الجوي للكرة الأرضية:
شكل 1: أقسام الغلاف الجوي للأرض (الرسم معدل بعد موقع “أنا أصدق العلم”).
(لو الصورة غير ظاهرة: نرجو الضغط على الفراغ أعلى هذا الكلام)
الغلاف الجوي يغطي الكرة الأرضية من جميع الجهات ويصل ارتفاعه إلى 1000كم فوق سطح الأرض، ويعتبر من أهم أغلفة الأرض لأنه يمد سكانها بالهواء الذي يعطيهم الأكسجين غاز الحياة وغيره من الغازات، ويضم الغلاف الجوي للأرض (شكل 1) عدة طبقات أو أغلفة وهي:
- غلاف التغيرات المناخية (التروبوسفير ويصل سمكه إلى 20 كم، أو حوالي 12 ميل) وتحدث في هذا الغلاف التغيرات المناخية مثل: انتشار السحب، وحركة التيارات الهوائية، ونزول الأمطار وحدوث الأعاصير والعواصف.
- الغلاف الطبقي (الاستراتوسفير ويصل سمكه إلى 38 كم، أو حوالي 24 ميل)، ويتكون من عدة طبقات أهمها طبقة الأوزون التي تحمي الكرة الأرضية من أشعة الشمس الضارة.
- الغلاف الأوسط (ميزو سفير ويصل سمكه إلى 20 كم، أو حوالي 12 ميل).
- الغلاف الحراري أو الأيوني (ثيرموسفير ويصل سمكه إلى 580 كم أو حوالي 350 ميل)، وهو الغلاف الذي تنعكس عليه موجات الراديو والاتصالات اللاسلكية، وهو موضوع أبحاث مشروع هارب السري الأمريكي.
- الغلاف الخارجي (إكسوسفير ويصل سمكه إلى أكثر من 420 كم أو حوالي 250 ميل) ويضم كمية قليلة جدا من الغازات، ويوجد في هذا الغلاف حزاما فان ألين الذين يمثلان المجال المغناطيسي للأرض، ويحمي الأرض أيضا من الأشعة الضارة.
ومن الظواهر المعروفة عن طبقات الغلاف الجوي للكرة الأرضية هو التغير في درجات الحرارة مع الصعود لأعلى (شكل 2)، فهذه الحرارة تتفاوت بين سالب 120° م إلى أكثر من 150°م حسب النطاق، وحسب وجود أو عدم وجود الطبقات المانعة لوصول الأشعة الشمسية الضارة إلى سطح الكرة الأرضية حيث جعل الخالق سبحانه وتعالى طبقات هذا الغلاف لحماية الكرة الأرضية وساكنيها من درجات الحرارة المرتفعة بفضل الله.
شكل 2: أقسام الغلاف الجوي للأرض (نقلا عن موقع “أنا أصدق العلم”)، مع اختلاف درجات الحرارة مع الارتفاع (الخط الأحمر) حيث تقل درجات الحرارة في التروبوسفير من 20°م، إلى (سالب) 55°م، ثم ترتفع درجة الحرارة في الغلاف الطبقي إلى 0°م، بينما تنخفض مرة أخرى في الغلاف الأوسط حيث تصل إلى (سالب) 90°م، ثم تعود للارتفاع في النطاق الأيوني لتتجاوز 150°م.
(لو كانت الصورة غير ظاهرة: نرجو الضغط على الفراغ أعلى هذا الكلام)
مشروع هارب السري:
كلما نظرت إلى هذا المصطلح “مشروع هارب السري” أتذكر إحدى النكات التي جاء فيها أن سائق الحافلة يقف أمام أحد المواقع العسكرية مناديا: “محطة المطار السري”، فهل لو كان مرتادي ذلك المكان جادون في جعل هذا المكان سريا، هل سيعرفه المارة؟ فبذلك أصبح المطار مكشوفا وليس سريا…. وكذلك لمن يقرأ اسم هذا المشروع الخطير… مشروع هارب السري (صورة رقم 1) ، فلم يعد سرا أن الولايات المتحدة الأمريكية قد أنشات في آلاسكا مشروعا ضخما يسمى:
“برنامج الشفق القطبي النشط عالي التردد”
“High Frequency Active Auroral Research Program, HAARP”
صورة (1): مشروع هارب الأمريكي يوضح الهوائيات التي ترسل موجات الراديو للأيونوسفير (نقلا عن ويكيبيديا).
(لو كانت الصورة غير ظاهرة: نرجو الضغط على الفراغ أعلى هذا الكلام)
يحتوي المشروع على 180 هوائيا موزعة على مساحة 14 هكتار، وتنبعث من هذه الهوائيات موجات راديو لاسلكية عالية التردد، ومن المعروف أن موجات الراديو تتفاوت في طول الموجة بين 1 ملليمتر إلى 100 كيلومتر (شكل 3)، فبذلك تكون الموجات الصادرة من هوائيات هارب تمثل أقصر الأطوال الموجية لموجات الراديو، أي تقترب أطوالها من 1 ملليمتر، وعليه تكون ذات ترددات عالية ضمن مدى ترددات موجات الراديو، ونلاحظ على شكل رقم (3) أن الموجات الكهرومغناطيسية ذات الترددات العالية جدا أو الأطوال الموجية القصيرة جدا مثل أشعة X أو أشعة جاما تمتلك القدرة على اختراق الأجسام الصلبة، بينما كلما ازداد الطول الموجي لهذه الموجات فهي لا تستطيع اختراق الأجسام الصلبة، ومن المعروف أن موجات الراديو (مثل الموجات التي تعمل بها أجهزة الاتصالات) لا تتجاوز الأجسام الصلبة وينقطع الإرسال تحت الكتل الخرسانية.
شكل (3): صفات الموجات الكهرومغناطيسية وأنواعها، ونلاحظ أن هذه الموجات تزداد في مقدار الطاقة كلما أصبحت أقصر في الطول الموجي وأعلى في التردد (نقلا عن موقع المرام).
(لو كان الشكل غير ظاهر: نرجو الضغط على الفراغ أعلى هذا الكلام)
تأثيرات مشروع هارب:
تم تصميم هوائيات مشروع هارب لإطلاق تريليونات الموجات الراديوية عالية التردد نحو طبقة الأيونوسفير من الغلاف الجوي، والغرض من ذلك هو البحث في إمكانية تطوير وتعزيز تكونولوجيا المجال الأيوني لأغراض الاتصالات اللاسلكية والمراقبة، وتعمل هذه الهوائيات كوحدة واحدة، وطريقة عملها تشبه طريقة عمل جهاز الميكرويف (أي أنه يعتبر سخان للأيونوسفير)، وأهم مكونات طبقة الأيونوسفير هي الذرات المتأينة نظرا لارتفاع درجات الحرارة، وهذه الأيونات تكون ما يعرف بالبلازما الأيونية، والأشعة الصادرة من هارب تحاول تعديل اضطراب هذه البلازما منخفظة الكثافة، ويؤدي ذلك إلى زيادة كثافتها، ويؤدي ذلك إلى ظهور سحب البلازما متعددة الألوان المعروفة باسم الشفق القطبي. وقد يؤدي ظهور هذا الشفق إلى تعديل حالة المناخ في المنطقة التي يتكون فيها الشفق القطبي.
وتتعدد تأويلات نتائج نشاط مشروع هارب ضمن التفسيرات العلمية المنطقية، وكذلك من خلال ما يعرف بنظريات المؤامرة التي تعتبر أن الولايات المتحدة الأمريكية هي كبرى قوى الشر في العالم، ويتوافق ذلك بعض الشيء مع الصورة التي تصدرها الولايات المتحدة الأمريكية نفسها على أنها القطب الأوحد المتحكم في العالم حاليا، مع العلم أن نجاحات الولايات المتحدة الأمريكية في السيطرة على العالم تكتنفه العديد من الإخفاقات ترجع إلى تجربتها في فيتنام وغيرها من الإخفاقات… فهذا العملاق له وعليه!!
وقد أشيع أن مشروع هارب قد توقف عن النشاط في العام 2015، وتم تمريره إلى جامعة آلاسكا فيربانكس، باعتباره منشآت تدريبية للطلاب، إلا ان نظريات المؤامرة تشير إلى أن حكومة الولايات المتحدة يمكن أن تستخدمه كسلاح في الحرب حيث يمكن أن يؤثر على سلوك الطقس، والزلازل، أو تغيير الغلاف الجوي المتأين للتسبب في كوارث مناخية… فهل هذه التهاويل صحيحة؟.
مشروع هارب وزلزال تركيا وسوريا (ما له وما عليه):
صورة رقم 2: من آثار زلزال تركيا 2023.
(لو كانت الصورة غير ظاهرة: نرجو الضغط على الفراغ أعلى هذا الكلام)
نقل موقع روسيا اليوم بالعربي عن رويترز قول بعض الخبراء: “إن الزلزال الأخير في تركيا لم يكن بسبب برنامج عسكري أمريكي سابق يسمى برنامج الشفق القطبي النشط عالي التردد (HAARP)”وأكد الخبراء أن هارب لا يمتلك إمكانية تعديل الطقس أو تنشيط الزلازل، فهو برنامج يستخدم جهاز إرسال عالي الطاقة وعالي التردد لدراسة خصائص وسلوك الأيونوسفير:
-قال أستاذ الهندسة في جامعة كورنيل الدكتور ديفيد هايسل: إن هارب هو جهاز إرسال لاسلكي أكبر من معظم أجهزة الإرسال اللاسلكية الأخرى، وليس من الممكن أن يخلق زلزالا.
-وقال ديفيد مالاسبينا المتخصص في فيزياء الغلاف الجوي والفضاء بجامعة كلورادو بولدر: إن موجات راديو هارب تشبه محطة بث إذاعي قوية AM، ولا توجد آلية معروفة من قبل أن يتسبب بث إذاعي في حدوث زلزال، كما أكد الدكتور ما لاسبينا أن موجات الراديو تخترق أقل من 1سم من سطح الأرض، في حين أن الزلزال أعمق من ذلك بكثير…. ويرجو كاتب هذه السطور من القارئ الكريم أن يرجع إلى خصائص الموجات الكهرومغناطيسية المذكورة أعلاه.
-وقال دكتور نوشي نيشيمورا أستاذ الهندسة الكهربائية بجامعة بوسطن أنه لا توجد حاليا تقنية لإطلاق موجات الراديو من الأرض وضرب مدينة على وجه التحديد، فلا يبدو أنه من الممكن أن تؤثر موجات الراديو على الظروف الزلزالية البعيدة.
-وحول نقطة خلافية انتشرت على مواقع وصفحات نظريات المؤامرة ذكر بعضهم أن الصواعق أو انبعاث أضواء تشبه البرق ليست من الأمور المعروفة عن الزلازل، ويشير بعضهم إلى أن نوبات البرق التي ظهرت في منطقة الزلزال التركي تنبع من جهة الأرض بينما البرق يصدر من السحب في السماء… هذه النقطة تؤكد عدم استناد أصحاب نظريات المؤامرة إلى الأسس العلمية الصحيحة في المشاهدة والتفسير… فلا أحد ينكر وقوع ظاهرة البرق المنبعث من الأرض أثناء الزالزال التركي، لكن هذه الظاهرة معروفة مع الزلازل وتسمى “أضواء الزلازل” وهي تصدر من الأرض كما جاء في موقع ويكيبديا… وقالت الدكتورة جيمسينا سيمبسون أستاذة الهندسة الكهربائية في جامعة يوتا لرويترز أيضا أن الظاهرة المعروفة باسم أضواء الزلازل هي في الواقع شائعة إلى حد ما، مشيرة إلى أنها ليست على علم بوقوع صواعق لعمليات هارب.
-لكن من الممكن أن يكون لمشروع هارب تأثيرا على المناخ كما قال الدكتور عمران عنان الأستاذ بجامعة ستانفورد أن الطاقة التي يصدرها مشروع هارب بالكاد يمكن أن “تقاتل” الأنظمة المناخية للأرض.
إلى هنا تنتهي الأفكار التي تم تجميعها من مواقع إخبارية مثل روسيا اليوم و رويترز، ومن دائرة المعارف المشهورة على الإنترنت ويكيبيديا، ومن مواقع مثل المرام وأنا أصدق العلم حول مشروع هارب السري… وأظن أنه قد اتضح من هذه الجولة براءة مشروع هارب من دماء ضحايا الزلزال بالأدلة العلمية المنطقية…. فهل يمكن اعتبار هذا المقال يرد على الذين يقولون أن مشروع هارب يعتبر سلاحا سريا خطيرا بيد الأمريكان، وأنه قادر على إحداث الفياضانات والجفاف والأعاصير والزلازل، أي أنه عسكريا يعتبر من أسلحة الدمار الشامل… فهل هذا صحيح؟
الأجابة غير صحيح .فهل سأل هؤلاء أنفسهم لو كانت أمريكا تمتلك ذلك السلاح الكبير الذي يمكنه التحكم في أحوال الطقس والمناخ، فلماذا تضرب الأعاصير والعواصف سنويا الأراضي الأمريكية التي تكبدها مليارات الدولارات؟ ولماذا لم تستطيع أمريكا أيقاف هذه الكوارث أو إنقاذ نفسها منها؟ أم أن الولايات المتحدة الأمريكية تجيد تصدير نفسها في صورة الدولة المرعبة، حتى وإن نسج البعض قصصا من الخيال عن تحكمها في الأرض والفضاء كما في أفلام هوليوود؟؟؟
بقلم: د.سعد كامل
أستاذ مشارك في الجيولوجيا – الإسكندرية – مصر
saadkma2005@yahoo.com