اعتقال الفكر يهدم الدين والدنيا
بقلم/ الدكتور شعبان عبد الظاهر
إذا كان البدن لا يبقى ولا يدوم إلا بالغذاء الذى يقيم أوده ويصلب عوده، فكذلك العقل لا يدوم مرشداً ولا يبقى مستنيراً إلا بالعلم والمعرفة اللذان هما زاده. فبهما ينبض وبهما يصل حاضره بماضيه، ويجمع بين أصالة الماضى وحداثة الحاضر.
وإذا كان لكل شئ ضد فإن لحرية الفكر أضدادًا كُثر . بل أعداءً من أشدها بأساً وأخطرها، وأكثرها وبالاً وأكبرها، تلك اللوثة التى تصيب الإنسان فى عقله وفكره وعلمه، فتجده مرتعش الضمير، ضعيف الهمة، فاتر العزيمة، غير قادر على اتخاذ قرار . فقد أصبحت حرية فكره وفهمه مكبلة بقيود وأغلال ذاتية، نتيجة لقناعات داخلية تراكمت على مر الزمان من قراءات خاطئة لموروثات ما قصد بها أصحابها هذا الفهم الخاطئ، وهذا الاستنباط الغير منطقى، ثم هو يردد فى زهاء بأنه على صواب، ويناطح من عارض أمره أو خالف رأيه.
ومن أضداد حرية الفكر الجهل المستحكم، فإن العقل والجهل ضدان كالماء والنار لا يجتمعان. والعقل لا يزدهر ويتألق ويتأنق إلا فى ظل العلم والمعرفة، وإن العقول المبدعة القادرة على التغيير لا يقر لها قرار، ولا يهدأ لها بال إلا فى ظل الأمن والسلام ومزيد من حرية الرأى والفكر. فحيثما يحل الجهل يغيب العقل، فالجهل يعطل بعصاه وسوطه الملكات العقلية، ويقضى على بارقة الأمل التى تنير للسالكين طريقهم إلى العلم الذى يسهل لهم طريقاً إلى الجنة، “من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له طريقاً إلى الجنة” كما ورد في الحديث النبوي الصحيح.
ولقد كان تحرير العقل والفكر مقصداً حسناً من مقاصد الشريعة الغراء السامية، فجاء الإسلام لإعلاء قيمة الفهم الجيد، والعقل المبتكر، والتفكير الحر، وفى سبيل ذلك كسر كافة القيود والأغلال التى تحول دون بلوغ الغاية.
ونظرة فاحصة إلى العرب قبل مجئ الإسلام، فقد كانوا على درجة عالية من الحرية والعزة والكرامة. وقد ضربوا فى ذلك أروع الأمثلة فى كافة مجالات الحياة، فيما عدا حرية الفكر فقد كانت رهن الاعتقال نتيجة لتمسكهم بعادات بالية وتقاليد هابطة ورثوها عن أبائهم الأولين. وقالوا هذا ما وجدنا عليه أباءنا، وظنوها دون غيرها الصواب، وما سواها هو الخطأ الذى لا يغتفر، والكسر الذى لا يجبر.
ومع العرب كان يعيش اليهود فى المدينة وهم أصحاب موروث دينى، سرعان ما انكمشت عقولهم وجمدت عن التفكير الجيد. فجاء الإسلام محرراً العقل من أغلاله، معلياً لقيمة العلم والمعرفة. ولعل فى بدء الوحى بقوله تعالى:{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} إشارة إلى إعلاء قيمة العلم والمعرفة، وإيماناً بحق العقل فى التفكير والإبداع.
وتتتابع الآيات على مدار ثلاثة وعشرين سنة هى عمر الوحى الشريف فى بيان قيمة العقل وتحريره من أغلاله..:{الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آَمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.
هذه صورة الإسلام الناصعة البراقة، وسراجه المنير الوهاج، الذى يحاول اتباعه آلان – دون قصد- الإساءة إليه وإطفاء نوره، فإن الجمود داء خطير قد دب واستشرى فى جسد الأمة، فهم يعيدون العقل إلى محبسه بعد أن حرره الإسلام، ويحكمون على الأفكار قبضتها بعد أن كسر الإسلام قيودها، وفك عانتها.
وبالمثال يتضح المقال، ساءنى موقف لا زلت اتذكره جيداً منذ عدة سنوات، حينما كنت أكتب في رسالتي – الدكتوراه – قرأت لبعض الباحثين الجدد، أنه لا يجوز – من وجهة نظره -النظر فى كتاب معين، فقلت في عقلي، يا الله!! ما أقبحه من فكر، وما أعوجه من عقل، وغير ذلك من الأمثلة المعاصرة كثير لا يسع المقام لحصرها فهى فى تزايد مستمر، وبالمقابلة الإسلام فى تأخر مستمر.
أيها السادة الأحرار، هيا نحرر عقولنا ونطلق لها العنان فوالله لن يضل أحد بعقله، بل سيزداد إيماناً وقناعة بالحق، ونظرة فى قصص الباحثين عن الحق ترى كيف ميزوا بعقولهم ونضج أفكارهم بين الحق والباطل، وبين الهدى والضلال، فانتقلوا برقى تفكيرهم من الظلام إلى النور، وسموا بسمو عقولهم إلى السموات العلى، وسبّحوا بحمد من علمهم كيف يبحثون عن الحق.