أساسيات في البلاغة والنقد الأدبي

بقلم / حاتم السروي
إذا نظرنا إلى الأدب العربي مع الآداب الأخرى وجدناه عميقًا في معانيه جميلاً في مبانيه غزيرًا في مادته، فكأنه لم يترك شاردة ولا واردة؛ بل إن عنترة بن شداد يتسائل في مطلع معلقته الشهيرة عن بقية كلامٍ لم يقله الشعراء:
هل غادر الشعراء من متردمِ..أم هل عرفت الدار بعد توهمِ
وإن مما يجعل الأدب العربي بهذه القوة والرسوخ والعظمة والأبهة؛ بحيث بدا ويبدو أدباً عملاقاً شامخاً لا يزيده الدهر إلا بهاءً والقرون إلا رواءً (البلاغة) والبلاغة كما تعلمناها هي مراعاة اللفظ لمقتضى الحال.
وبالنظر إلى تراثنا الأدبي العظيم نجد ما لا مزيد عليه من دقة استعمال الألفاظ، ومن المعلوم أن اللغة (أية لغة) قائمة على الاحتياج المعنوي، فإذا ناسب القول حاجة قائله، كانت اللغة خير أداة للتواصل، والإنسان يتحدث بمستوياتٍ مختلفة، ومرجع الاختلاف رعايته لما يحتاج إليه غالبًا، مع مراعاة أمن اللبس والتناقض، فهذا كله غاية الألسنة جميعها دونما استثناء، ولهذا نرى للمعنى دورًا هامًا في علم النقد الأدبي الذي بدأت بوادره الأولى منذ عصر الجاهلية، ويحضرنا في هذا المقام قول طرفة بن العبد : “استنوق الجمل” والذي صار مثلاً! ولهذا المثل قصة طريفة ربما كان من المفيد أن نذكرها؛ إذ ورد في تاج العروس للسيد مرتضى الزبيدي رحمه الله أن المُسَيِّب بن علس كان قد مر بمجلس بني قيس بن ثعلبة؛ فاستنشدوه فأنشدهم كما طلبوا وطرفة بن العبد حاضرٌ عندهم، وكان غلامًا، وعندما وصل المسيب إلى قوله:
وقد أتناسى الهم عند احتضارهِ.. بناجٍ عليه الصيعرية مُكدمِ
قال طرفة: “استنوق الجمل” وذلك لأن الصيعرية من سمات النوق دون الفحول، فغضب المسيب وقال: من الغلام؟ قالوا: طرفة بن العبد، فقال: ليقتلنه لسانه، فكان كما تفرس فيه.
وقد ابتعد طرفة عن خطأ المسيب، فقال في معلقته:
وإني لأمضي الهَمَّ عند احتضارهِ.. بعوجاءَ مرقالٍ تروح وتغتدي
من هنا بدأ النقد الأدبي، وأصل النقد لغةً من نقد الدجاح الحب يعني استخرج الحب الجيد واستبعد الرديء، و نقد الصيرفي المال ينقده نقدًا يعني يميز الاصلي من المزيف، وطالما رست بنا العبارة على المزيف، فإني أخبرك يا صديقي الأديب بما يعتمل في صدري من أسى، فالبوح أول طريق الإصلاح، ولابد من الإصلاح، ألا توافقني الرأي؟!.
كيف لا والحال كما ترى، فشا القلم وكثر مدعو الأدب، ومن لا دربة له ولا دراية صار يكتب وينظم، لهذا أقول: إذا أردت أن تكتب ادباً خليقاً بمسمى الأدب فاعلم أن كثيرًا من أدب هذه الأيام لا يصل بك إلى غاية ولا يضعك على سلم البداية.
وإن شئت فلك أن تسألني ما دليلي على هذا الكلام؟ وهل للفن قواعد؟ هل للشعر أصول؟ وأقول لك في وضوح إذا لم يكن للشعر أصول وللفن قواعد فهما لغوٌ بلا معنى وثرثرة بلا جدوى، ولهذا قال الدكتور الفاضل محمد حسن عبد الله وهو الخبير في النقد الأدبي: “وقد أحسن أبو هلال وأصاب إذ اعتبر فنون الأدب صناعة؛ فلكل نشاط إبداعي قوانينه وأصوله، ولا قيمة للموهبة ما لم تعمقها الثقافة وتنظمها القوانين العلمية”.
ولكن من هو أبو هلال الذي أستعين به اليوم على انتقادي للنقد الأدبي الذي أراه، و أدلل به على انحراف المسار الأدبي الذي افتقد أهم ما يجب أن يكون في الأدب ألا وهو البيان وجنح إلى الرمز والتعقيد فأخرج لنا طلاسم قد تشبه ما نسمعه من السحرة.
إنه السيد أبو هلال الحسن بن عبد الله العسكري، والعسكري نسبةً إلى عسكر مكرم وهي قرية بسيطة من إقليم الأهواز الذي يتبع حالياً جمهورية إيران واسمه الفارسي “خوزستان”.
وكان أبو هلال في بداياته مرافقاً لخاله العسكري الكبير واسمه أيضاً الحسن بن عبد الله وكان عالم دين ودنيا أيضاً، فقد تعلم عليه ابن أخته أصول النقد الأدبي والتذوق الفني.
وكتاب الصناعتين يتناول الأعمال النثرية والشعرية التي تناهت إلى أبي هلال من عصر الجاهلية حتى زمن تأليفه للكتاب في القرن الرابع الهجري، وكتاب الصناعتين له صنوٌ علمي سبقه في الوجود وهو كتاب أرسطو ” عن الشعر ” وفيه تناول المعلم الأكبر كما كان يسميه العرب تراجيديات اليونان الكلاسيكية المشهورة على مستوى العالم حتى الآن والتي أبدعها يراع سوفوكليس ويوربيدس، وفي كتابه عمل أرسطو الفيلسوف على استنباط قوانين فن الدراما.
ومثله فعل أبو هلال حيث أخذ في تقليب أشعار العرب وكتاباتهم مستعيناً بثقافته العميقة ومعارفه الكبيرة وتمكنه من لغة العرب، فكان رحمه الله مثل الصائغ المحنك الخبير الذي إذا جاءته امرأة لتبيع سلسلة أو محبس أو خاتم ثمن البضاعة وميز بين أنواعها وعرف النفيس منها ومتوسط القيمة والخسيس الذي لا خير منه يرتجى.
وكما أن كتاب ارسطو يتحدث عن الدراما والشعر؛ فكذلك أتى كتاب الصناعتين ثنائي الوظيفة؛ إذ يمحص النثر والقصيد، ويضع مفتاحاً للنقد الأدبي ألا وهو البلاغة.
والبلاغة ليست تذوقاً انطباعياً فالذي يقرأ العمل ثم ينقده أو ينقضه ويقول أنه لا يعجبه لسبب شخصي أو لانطباعٍ يخصه دون قواعد علمية محكمة فهو مدعي يتخفى في زي الناقد والأديب.
وإنما البلاغة عند أبي هلال (علم) يعني ثقافة ومدارسة بل هو يقول في مقدمة كتاب الصناعتين ” اعلم – علمك الله الخير- أن أحق العلوم بالتعلم بعد معرفة الله جل ثناؤه هو علم البلاغة ومعرفة الفصاحة ” ولكن لماذا كل هذا الاهتمام؟ لأنه بمعرفة البلاغة ومعها النحو نفهم القرآن الكريم ونقف على وجه الإعجاز البياني فيه، ونعرف ما به من حسن التأليف وبراعة التركيب وما فيه من الإيجاز والإنجاز والاختصارات اللطيفة والإشارات الدقيقة، وكيف أن قارئه يجد فيه عمق المعنى مع وضوح العبارة، وسهولة الكلمة مع فصاحة الأسلوب.
والفصاحة هي جودة الصياغة اللفظية وحسن الديباجة، فإذا كان الكلام إلى هذا واضح المعنى وجيد المضمون فتلك هي البلاغة، وعلى هذا فإن العمل الأدبي إذا خلا من البيان وصار مبهم المعاني فيه غموض وألغاز وشفرات فقد فقد أهم ما يميز الأدب عن غيره، ولو كان الأدب بمعناه فقط فإن المعاني مشاعة بين الجمهور، ويعرفها الخياط والنجار وجامع القمامة، أما الأديب فعمله ينحصر في (توضيح المعنى وتحسين اللفظ) توضيح المضمون وتجميل الشكل.
وكثير من الشعر لا يحمل كبير معنى وإنما ينحصر جماله في اللفظ الرائق المُعْجِب. اقرأ هذه الأبيات وقل لي بحق الله ألا يعجبك:
ولما قضينا من منى كل حاجةٍ.. ومسَّحَ بالأركان من هو ماسحُ
وشُدَّت على حُدُبِ المهاري رحالنا.. ولم ينظر الغادي الذي هو رائحُ
أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا.. وسالت بأعماق المُطِيِّ الأباطِحُ
يعني لما انتهينا من الحج ومسحنا بأركان الكعبة ثم شددنا الرحال على إبلنا ولم ينتظر بعضنا بعضا؛ جعلنا نتحدث وتسير بنا الإبل في الأودية.
فانظر هنا جمال التركيب وحسن الألفاظ والموسيقى النابضة، ثم قارن هذا بما تقرأه او تسمعه منا يسميه البعض قصيدة النثر وهو كلام سقيم ليس فيه حلاوة لفظ ولا وضوح معنى، ولعله السبب في انصراف البعض عن الأدب وتذوقه ولعلهم يتأدبون.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
- اعتمد الكاتب في هذا المقال على :
- دليل القارئ الذكي إلى عيون التراث العربي..محمد الخولي/دار صوت العرب للثقافة والإعلام/1993
- مقدمات تأسيسية في نظرية النقد الأدبي.. دكتور صلاح السروي.. منشورات الربيع/ القاهرة/ الطبعة الأولى/يناير 2020.

كاتب وأديب