ترامب والعبث والفوضى على رقعة العالم

بقلم / مدحت سالم
** مقامر عشوائي
إذا كان العالم رقعة شطرنج فإن دونالد ترامب ليس ذلك اللاعب المحنك الذي يخطط لكل حركة بل هو ذلك المقامر الذي يقلب الرقعة رأسا على عقب متوهما أنه بذلك يعيد تشكيل قواعد اللعبة يضرب ضربات عشوائية لا تحكمها قواعد ولا تضبطها استراتيجيات وإن بدت محسوبة فإنها لا تخرج عن دائرة الفوضى المقصودة تلك الفوضى التي يتعمد من خلالها إرباك خصومه قبل حلفائه في الداخل والخارج ليصبح هو النقطة الوحيدة الثابتة في مشهد يملؤه الاضطراب
** بين الفوضى والسُّلَّم
(( الفوضى هي سلم )) كما قال تيريون لانستر في المسلسل الشهير (( لعبة العروش )) لكن ترامب لا يستخدم الفوضى كسلّم بل كإعصار يجرف به كل ما حوله ليبقى وحده في مركز العاصفة يتلاعب بالقوى السياسية والاقتصادية والعسكرية بنفس أسلوبه في عالم المال والأعمال ذلك العالم الذي عرفه مقامرا قبل أن يكون سياسيا ولاعبا قبل أن يكون حاكما
** إطلاق الوحوش بدلا من محاربتها
يقول الفيلسوف نيتشه (( من يحارب الوحوش عليه أن يحذر لئلا يتحول إلى وحش )) لكن ترامب لا يحارب الوحوش بل يطلق سراحها لأنه يدرك أن وجودها يمنحه المبرر للاستمرار في مشهد يثير الفوضى ثم يقدم نفسه كمُنقذ ثم يضرب ضرباته الكبرى في غمار هذا الارتباك.
ومن يرفض أو يقاوم فإنه يُبقي الطلب على الطاولة ليضغط به لاحقا تماما كما فعل في مطالباته بزيادة نفقات الدفاع الأوروبي وكما فعل في طلبه الأموال من السعودية وكما فعل حين رفع الجمارك على كندا ثم أجّل القرار حين واجه بردٍّ مماثل
** إعادة صياغة قواعد اللعبة
الهدف ليس تحقيق مكاسب آنية فقط بل ترسيخ قواعد جديدة للعبة لعبة لا تعتمد على المؤسسات بل على الصفقات ولا تحكمها التوازنات بل الهيمنة المطلقة ترامب يريد أن يكون مركز الكون السياسي والاقتصادي والعسكري فهو لا يعترف بالمؤسسات التي شكلت الدولة الأمريكية عبر عقود ولا بالمراكز التي كانت تصنع القرار بل يريد تفكيك كل ذلك ليصبح هو المرجعية الوحيدة للأصدقاء والأعداء على السواء
** تزوير الحقيقة وصياغتها وفق الهوى
يقول جورج أورويل (( كلما ابتعد المجتمع عن الحقيقة زاد كرهه لمن يتحدث بها )) وترامب يريد أن يصوغ الحقيقة كما يريد بحيث لا يبقى هناك معيار واضح للحكم على أفعاله فكل ما يقوله يصبح صحيحا لمجرد أنه قاله وكل ما يفعله يصبح مبررا لأنه يفعله
** سُنَّة التدافع واستحالة احتكار السلطة
لكن التاريخ يعلمنا أن السلطة المطلقة لا تدوم وأن كل من حاول أن يكون مرجعية العالم وحده انتهى بأن أصبح عدوا للعالم كله لا يمكن لأحد أن يختزل أمريكا في شخص واحد ولا يمكن لشخص أن يكون الحاكم الأوحد فوق المؤسسات والقوانين والأنظمة هذه سنة التدافع والمغالبة التي حفظت توازن الكون منذ الأزل وقد قال الله تعالى في القرآن الكريم (( وَلَوْلَا دَفْعُ ٱللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَمِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا ٱسْمُ ٱللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ ٱللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ )) الآية ٤٠ سورة الحج
** ميشيل فوكو وفلسفة السلطة
لقد فهم الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو كيف تعمل السلطة حين قال (( السلطة ليست شيئا يملكه أحد بل هي شبكة من العلاقات فحين يحاول شخص أن يستأثر بها وحده فإنه يدمّر هذه الشبكة لكنه في النهاية يسقط معها لأن السلطة التي تُبنى على شخص واحد لا تدوم أكثر مما يدوم هذا الشخص)).
**ترامب والرهان على الفوضى
ولقد كان ترامب مدركا لهذه الحقيقة لكنه لا يبالي فالمهم عنده ليس بقاء أمريكا ولا استقرار العالم بل المهم أن يبقى هو في المشهد أطول مدة ممكنة حتى لو كان ذلك يعني حرق كل القواعد وهدم كل التقاليد وتمزيق كل الاتفاقات المهم أن يبقى الجميع في حالة صدمة دائمة فلا يعرفون ماذا سيفعل غدا وما الذي سيفاجئهم به في تغريدته القادمة أو مؤتمره القادم.
**المقامر قد يخسر كل شيء
لكن هذا المنهج لا يمكن أن يستمر إلى الأبد لأن من يعتمد على الصدمة والترويع يفقد تأثيره بمجرد أن يعتاد عليه الآخرون ومن يلعب بالنار لا بد أن تحترق يده يوما ما وقد قال المفكر الهندي المهاتما غاندي
(( أي أنك قد لا تعرف أبدا إلى أين ستقودك أفعالك لكن إن لم تفعل شيئا )) فلن تكون هناك نتيجة ترامب يفعل كل شيء لكنه في النهاية قد يجد نفسه في نقطة الصفر بعد أن يكون قد أحرق كل الجسور التي تربطه بالعالم
**إلى متى يستمر هذا العبث
فإذا كان يراهن على الفوضى فإن التاريخ لم يشهد يوما مقامرا ربح كل رهاناته وإن كان يراهن على الصدمة فإن الصدمات تفقد تأثيرها بعد حين وإن كان يراهن على تفكيك الدولة فإن الدولة أكبر من أن تختزل في شخص واحد والقرارات العشوائية قد تخلق زوبعة لكن الزوابع لا تدوم والسؤال الذي يبقى معلقا إلى متى يمكن أن يستمر هذا العبث وهل سيقف العالم متفرجا أم أن لحظة المواجهة الحقيقية تقترب.
مدحت سالم
كاتب وباحث