إستمرار جرائم الإبادة في غزة …شاهد حي على سقوط الإنسانية أمام اختبارات القوة

بقلم / مدحت سالم
لم تكن غزة يومًا مجرد بقعة جغرافية على خريطة النزاعات الدولية، بل كانت وما زالت مرآة تعكس الوجه الحقيقي للعالم وتكشف زيف ادعاءات العدالة الدولية وازدواجية المعايير التي تحكم سياسات القوى الكبرى. فمنذ عقود، وغزة تقف وحيدة في وجه آلة الحرب الطاحنة، تدفع ثمنًا باهظًا من دماء أبنائها وأشلاء أطفالها وأنقاض بيوتها، بينما تقف الأنظمة الدولية عاجزة، مترددة، متواطئة في كثير من الأحيان، تحركها المصالح لا المبادئ، وتقودها الحسابات الباردة لا القيم الإنسانية.
**الإبادة الممنهجة وموت الضمير العالمي
إن ما يحدث اليوم في غزة ليس مجرد حرب عابرة أو جولة من جولات الصراع التقليدي بين محتل غاشم وشعب يرفض الذل والاستسلام، بل هو نموذج صارخ لسقوط كل الشعارات البراقة التي ملأت أدبيات السياسة الدولية عن حقوق الإنسان، وحماية المدنيين، وضرورة احترام القوانين الدولية. فالعالم الذي انتفض يومًا لأجل حادثة هنا أو انتهاك هناك يقف اليوم صامتًا متفرجًا أمام الإبادة الجماعية التي يتعرض لها شعب بأكمله تحت القصف والحصار والحرمان من أبسط مقومات الحياة.
إن المجازر التي تُرتكب في غزة ليست مجرد وقائع معزولة، بل هي سياسة ممنهجة تهدف إلى كسر إرادة هذا الشعب واجتثاث جذوره من أرضه، في محاولة لإعادة رسم خرائط النفوذ وفق منطق القوة الغاشمة. ولكن ما يغفل عنه صُنّاع هذه السياسات هو أن غزة لم تكن يومًا مجرد مدينة أو قطاع، بل هي فكرة حيّة متجذرة في وعي الأمة ومخزونها الحضاري والتاريخي. هي رمز للمقاومة التي لا تنكسر، وللحق الذي لا يموت، وللإيمان بأن الظلم مهما طال، فإن مصيره إلى زوال.
**ازدواجية المعايير في السياسة الدولية
وفي ظل هذا المشهد المأساوي، يقف النظام الدولي مكشوف الوجه، عاجزًا عن إيقاف المجازر أو حتى إدانتها بشكل واضح. بل وأكثر من ذلك، نرى كيف تتحرك الدول الكبرى وفق أجندات مصالحها الضيقة، فتبرر العدوان تارة وتتجاهله تارة أخرى، بل تدعمه بالسلاح والمال والدبلوماسية، ليكشف العالم مرة أخرى أنه لا يوجد شيء اسمه القانون الدولي إلا عندما يتعلق الأمر بحماية الأقوياء، ولا يوجد شيء اسمه حقوق الإنسان إلا إذا كان الضحية ينتمي إلى ثقافة أو لون أو عقيدة تضمن له التعاطف الدولي والمناصرة الإعلامية.
إن غزة اليوم ليست مجرد ساحة معركة عسكرية، بل هي اختبار تاريخي لمصداقية العالم الذي يدّعي التحضر والإنسانية، وهو اختبار سقط فيه الجميع دون استثناء. فمنظمة الأمم المتحدة التي يُفترض أن تكون مظلة للعدالة العالمية أثبتت أنها لا تملك من أمرها شيئًا سوى بيانات الشجب والإدانة التي لا تُسمن ولا تغني من جوع. ومجلس الأمن، الذي يُفترض أن يكون صمام الأمان ضد العدوان والاحتلال، تحول إلى أداة لخدمة الكبار وتعطيل أي قرار لا يتماشى مع مصالحهم. والأنظمة العربية، التي كان يُنتظر منها موقف حاسم يليق بحجم الجريمة، لا تزال تدور في دوائر المراوغة السياسية، وتحاول الموازنة بين غضب شعوبها وضغوط حلفائها الدوليين.
**الإعلام الدولي والتلاعب بالروايات
أما الإعلام الدولي، فقد كشف عن وجهه الحقيقي كأداة تُستخدم لخدمة الرواية التي يريدها أصحاب النفوذ، حيث يتم التلاعب بالمصطلحات وتزييف الحقائق. فالمقاومة تُسمى إرهابًا، والضحايا المدنيون يُصبحون أضرارًا جانبية، بينما يُقدَّم المحتل المعتدي في صورة المدافع عن النفس، في مشهد من الانحطاط الأخلاقي لم يشهد له التاريخ مثيلًا.
وفي هذا السياق، يصبح القتل مسألة وجهات نظر، ويُختزل الاحتلال في عبارات دبلوماسية مراوغة، ويُصوَّر الضحايا وكأنهم مجرد أرقام بلا أسماء ولا وجوه، مما يجعل المشهد أكثر قسوة، لأنه يُكرّس جريمة التواطؤ الإعلامي التي لا تقل خطورة عن جريمة القصف والقتل والتدمير.
**غزة بين الموت والصمود
ورغم كل هذه التحديات، ورغم حجم القتل والدمار، فإن غزة لا تزال صامدة، شامخة برغم كل الجراح، وبرغم كل الخذلان. لأن من يقرأ التاريخ يدرك أن الشعوب قد تُهزم عسكريًا، لكنها لا تموت إرادتها، وإذا كان الظلم قد فرض عليها اليوم واقعًا مريرًا، فإن الغد قد يحمل معه موازين جديدة تعيد الأمور إلى نصابها.
إن المعركة في غزة لم تعد مجرد معركة بين شعب أعزل وقوة عسكرية غاشمة، بل أصبحت معركة بين الحق والباطل، بين الضمير الإنساني والمصالح السياسية، بين من يؤمن بعدالة القضية ومن يبيع المبادئ في أسواق النفوذ. وهي معركة لا تتعلق فقط بمن يحمل السلاح على الأرض، بل تشمل كل من يملك كلمة أو موقفًا أو قدرة على التأثير، لأن الصمت في هذه اللحظة هو خيانة، والتواطؤ بأي شكل من الأشكال هو جريمة لا تقل عن جريمة القصف والقتل والتدمير.
** ختاماً ….غزة والذاكرة الحية
إن هذا العدوان قد يكون هو الأشرس والأعنف، لكن المؤكد أنه لن يكون الأخير، لأن منطق الاحتلال قائم على التوسع والبطش واستمرار الصراع. ولكن ما هو مؤكد أيضًا أن غزة ستبقى، وأن جذوة المقاومة لن تنطفئ، وأن الحق الذي يُروى بالدماء لا يمكن أن يُدفن تحت ركام المباني المهدمة، لأن الشعوب الحية لا تموت، وأنين الأطفال الجرحى سيبقى شاهدًا على هذه المرحلة السوداء من التاريخ، وسيكون لعنة تطارد كل من تآمر أو صمت أو برر أو ساند هذا العدوان البشع، الذي لن يسقط بالتقادم، ولن يغفره التاريخ.
مدحت سالم
كاتب وباحث