حين يبتعد المصريون عن الإنقسام ويُناديهم الوطن باسم المحبة

بقلم / مدحت سالم
بسم الله الرحمن الرحيم
(( وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ )) الأنفال آية ٤٦.
إن ما نشهده اليوم من تداعيات قضية الطفل ياسين ،التلميذ بمدرسة الكرمة في دمنهور ،لم يعُد محصورًا في أروقة المحاكم، بل امتد كعاصفة رملية تعصف بعقول المتحمسين من الطرفين، فحوّلوا الواقع الحزين إلى منصة للوعظ الديني وتعبئة طائفية، تُهدد السلم المجتمعي
لقد أسهم التناول العاطفي المحموم للقضية في بعث العصبية من رمادها، فأخرج ألسنةً من الحقد متوشحةً بثوب المظلومية والاتهام، وهو خطاب لا يخدم لا الوطن ولا العدالة، بل يوظف الألم لأجندات مشبوهة.
الخطر الأشد لا يكمن في الرواية ولا الحكم، بل في استعداد المجتمع الدائم للاصطفاف الديني عند كل أزمة، وكأن ذاكرة الوطن تتآكل عند كل احتكاك، وتنسى قرونًا من التعايش والمصير المشترك.
**اختبار وطني لا ديني
ما يحدث ليس مجرد تدافع في الرأي بل اختبار لقدرتنا على تجاوز الألم دون الانجراف إلى هاوية الثأر الطائفي، دون أن نسمح للغضب أن يسحبنا من نور المدنية إلى عتمة الجهالة.
اختزال القضية في خلاف ديني هو جريمة أخلاقية تُفرّغها من بعدها الإنساني وتفتح الباب لرياح لا نعرف وجهتها، فتُحول جراحنا إلى أدوات هدّامة لا إلى طاقة للشفاء.
**مصر بوتقة ينصهر فيها الجميع
مصر كانت ولاتزال بوتقة تنصهر فيها الهويات وتتمازج الأرواح، الواجب على كل مصري أن يغلق أذنيه عن أبواق الطائفية وقلبه دون الكراهية، وأن يرفع صوته بحب هذا الوطن.
**هيبة الدولة وسلاح القانون
على الدولة أن تنهض وعلي عجل، وتمارس هيبتها، فتُغلق الحسابات الطائفية، وتُخرس الأقلام السامة، وتضبط الخطاب الإعلامي والديني بقوة القانون والمواطنة.
**منابر الدين: صوت واحد للوطن
المؤسسات الدينية الإسلامية والمسيحية مدعوة لأن ترفع صوتًا واحدًا يعلي الوطن فوق الغضب، ويُعلن أن دماء الأطفال لا تُستخدم لإشعال الفرقة، بل تُقدّس لنصرة العدل.
يرى د. أحمد زايد أن اللحظة تتطلب ( إعادة تثقيف الأمة ضد العصبيات )لأن المجتمعات التي تفقد ذاكرتها المشتركة تتحول إلى قبائل مغلقة، وهذا هو الطريق إلى التفكك.
**مصر في القلب: البابا شنودة وذاكرة التعايش
قال البابا شنودة: ( مصر ليست وطنًا نعيش فيه بل وطنًا يعيش فينا )والمهم ليس كيف نعبد الله، بل أن نحفظ حرمة من يعبد الله معنا، فهذه هي روح المصري الأصيل.
**الحروب العقائدية والمذهبية أخطر من السلاح
قال المفكر الفرنسي الشهير روجيه جارودي: (( إن أخطر الحروب ليست تلك التي تُخاض بالسلاح بل التي تُخاض بالعقائد ))لأن اختزال الإنسان في دينه يجرّده من رحمته وإنسانيته.
**لا لدفاع الطائفة بل لحماية الوطن
نحن اليوم مدعوون لا للدفاع عن طائفة بل لحماية وطن، لا للاصطفاف خلف الرموز بل خلف القيم، لأن مصر ستظل وطنًا لكل المصريين رغم كل دعاة التفرقة.
فلنصمت قليلًا وننصت لصوت مصر في داخلنا، ذاك الصوت الذي لم يكن يومًا مسلمًا ولا مسيحيًا بل مصريًا نابضًا، لا يعرف الكراهية بل يعرف المحبة.
**مشروع تربوي لا خطاب موسمي
الخروج من الأزمة لا يكون بالشجب الخطابي، بل بمشروع وطني تربوي يعيد ترتيب أولويات الانتماء داخل وجدان أبنائنا، ويُربّي على العيش المشترك لا التصادم العقائدي ويتم ذلك من خلال :
**التعليم: مصنع الوحدة والكرامة
التعليم ليس تلقينًا بل وجدانًا، فلتكن المناهج بوابة لترسيخ أن الوطن أكبر من الاختلاف، ولتُدرّس سير شهداء الطرفين الذين ماتوا من أجل تراب مصر لا عقيدتها.
**الإعلام: واعي وليس مستقطب
الإعلام يجب أن يكون واعيًا لا مستقطِبًا، فالمواقع والمنصات مطالبة بإطفاء النيران لا تأجيجها، وبنقل الخطاب من الاستقطاب إلى الوحدة.
**القانون لا يساوم على الكرامة
الدولة يجب أن تتدخل بالقانون، فتغلق كل منبر للكراهية، سواء كان إلكترونيًا أو دينيًا، وتمنع الخطب السوداء التي تُحاك في بيوت الهمس والحقد.
**المؤسسات الدينية: صوت الرحمة لا الحصار
على الكنيسة والأزهر أن يُعلنا وثيقة وطنية لا تُختزل في عقيدة، وأن يُعلنا أن الكرامة والرحمة أساس، وأن الدين لا يكون سلاحًا في وجه أخيك في الوطن.
**الخطاب الروحي بدل الهويات الجريحة
ليكن منبر الجمعة ومنصة الأحد دعوة لبعث الوطن في القلوب لا لإعادة إنتاج الجراح، فالوطن لا يُبنى من أرواح منكسرة بل من أرواح متآخية.
**المجتمع المدني: جسر التفاهم
المجتمع المدني هو الجسر بين الدولة والمواطن، وعليه أن يفتح الحوار بين الطوائف لا كمجاملات بل كمشروع تربوي يبني أجيالًا ترى في الآخر مرآةً لا خصمًا.
فلنُربِّ أبناءنا على أن الدمع لا يُسأل عن مذهبه، وأن القبر لا يعرف طائفة، وأن الدين لله والوطن للجميع، وأن المحبة ليست شعارًا بل فعلًا.
ليكن شعارنا لا تسامحًا فحسب بل وحدة عضوية حقيقية، لأن التسامح قد يُخفي تعاليًا، أما الوحدة فهي انصهار وامتزاج لا يُفرّق بين دم ولا ألم.
**الهوية القاتلة والرحمة الجامعة
يقول الأديب اللبناني الشهير أمين معلوف: (( ليس الخطر في أن يكون للإنسان انتماء بل أن يجعل من انتمائه سلاحًا ضد الآخر ))فلنُلقِ سلاح الطائفة ولنحمل سلاح الرحمة، ففي الرحمة وطن لا يُهدّ، وفي المحبة مستقبل لا يُحرق.
**دعوة إلى بعث الرجاء من الرماد
علينا أن نغلق نوافذ العصبية ونفتح أبواب الروح للرحمة، تلك التي لا تسأل عن دينك قبل أن تُحبك، فمصر بدأت حين كان النيل يسقي بلا سؤال، والفرعون يُشيد المعابد ويوزع الخبز بلا مذهب.
**دعوة لخطاب إنساني معتدل
ليكن خطابنا القادم معتدلاً رحيمًا لا مذهبيًا، فالله لم يُنزل كتبه ليفرّق العباد بل ليقودهم إلى المحبة، إلى التراحم، إلى حياة واحدة.
**قومي يا مصر
يا مصر قومي من كابوس الفتنة، واغسلي وجهك بماء النيل لا بالدموع، والبسي رداء الوحدة الذي خيط من دماء الشهداء في مسجد وكنيسة، لأن الله لن يسألنا عن دياناتنا بل عن كيف تركنا وطنًا يُغتال تحت أنظارنا.
مدحت سالم
كاتب وباحث