
بقلم / حسن السعدني
يظنّ كثير من الناس أن الحبّ والكراهية نقيضان متقابلان، فإذا قلتَ: “لا أحبه”، قيل لك فورًا: “ولماذا تكرهه؟!”، وكأن القلب آلة بثّ لا تملك سوى زرين: إمّا حبّ، أو كره… ولا ثالث لهما.
لكن هذا، والله، من الخطأ في فهم النفس البشرية، ومن الجور في تأويل مشاعرها. فالقلوب ليست أبوابًا موصدة على حرفين، بل خرائط شاسعة، تتخلّلها مشاعر متنوّعة… لا يسكنها الأبيض أو الأسود وحدهما، بل تمتدّ فيها مساحات من الرماديات الهادئة، وتُقيم فيها مناطق حيادية لا حبّ فيها ولا كره، بل سكون.
Table of Contents
Toggleمساحات رمادية في القلب
نعم، ليس كل من لم نحبّه نكرهه. فثمة من نعبر بهم كما نعبر الجسور: لا نبني فيهم بيتًا، ولا نضرم فيهم نارًا. وجوه نمرّ بها، لا توقظ فينا شوقًا، ولا تؤجّج جفاءً. ربما نحترمهم، نُقدّرهم، نتعامل معهم بلباقة… لكنهم لا يسكنوننا، ولا نفتح لهم شبابيك القلب.
الحبّ ليس رياضيات
والعكس صحيح. لا نحبّ كل من لا نكرههم. فقد نرى في أحدهم طيبةً أو صدقًا أو لطفًا، لكن لا تثمر تلك الرؤية حبًّا. لماذا؟ لأن الحبّ ليس قرارًا منطقيًا، بل انفعال وجدانيّ، لا يخضع لقوانين الرياضيات ولا لمنطق الأسباب. قد نحبّ من أساء، وننصرف عن من أحسن، لأن الحبّ “نبض” لا “حساب”.
استبداد عاطفي مقنّع
وما أكثر ما تظلم الأحكام حين تصف من لم يحبّك بأنه عدوّك، أو من لم يبادلك العاطفة بأنه يكرهك. كأننا صرنا نطالب الناس بأن يحبّونا غصبًا، وأن يتزيّوا لنا بثياب العشق. فإن لم يفعلوا، صببنا عليهم تهم النفور والجفاء!
وهذا — يا صاح — نوع من الاستبداد العاطفي… أن تُلزم غيرك بمشاعر لم يخترها، وتطلب الحبّ وكأنه دين واجب.
فلنعترف بمساحة الحياد
نحن بحاجة إلى قدر من النضج النفسي لنفهم أن المشاعر لا تُستدرج بالإلحاح، ولا تُنتزع بالواجب، وأن من لا يحبّك لا يعني أنه يُعاديك، كما أن من لا تكرهه لا يلزمك أن تهيم به حبًا.
في حياتنا “مساحة حياد” يجب أن نعترف بها، ونتعلم كيف نحترمها: مساحة “اللاحبّ واللاكره”، المنطقة التي نعامل فيها الناس بأخلاقنا لا بمشاعرنا، نقدّر وجودهم، دون أن نمنحهم مفاتيح القلب، ولا نصنع منهم خصومًا فقط لأنهم لم يطرقوا بابه.
الهدوء… عاطفة كافية أحيانًا
فيا من خُذلتَ لأن أحدهم لم يحبّك، لا تُسرف في الحزن.
ويا من اتُّهِمتَ بالكراهية لأنك لم تُظهر الحب، لا تُبرّر كثيرًا.
فالحبّ — في النهاية — هبة لا واجب، وغيابه لا يعني الكراهية، كما أن الكراهية لا تعني غياب العقل.
فلنُعد ترتيب مشاعرنا، ونُعطِ الآخرين حقّ الحياد دون أن نُثقِل عليهم بتأويلاتنا. فإن في القلب متّسعًا كبيرًا، لا يحوي المحبة والبغضاء فقط، بل الهدوء، والاحترام، والتجاوز، والصمت الطيب… وهذا يكفي.
حسن محمد السعدني
كبير معلمي اللغة العربية -مدرسة السعدية الثانوية
إدارة شربين التعليمية