أراء وقراءات

الجندي المصري… صانع النصر وأقوى من السلاح

بقلم عبير الحجار

في السادس من أكتوبر عام 1973، سطر الجيش المصري فصلًا بارزًا في ذاكرة الأمة؛ يوم عبور القناة واجتياز خطوط دفاعية محصّنة، ووقتٍ ارتفعت فيه رايات الكرامة بعد سنوات من الإحباط. ومع تجدد ذكرى النصر سنويًا، تتجدد مشاعر الفخر والاعتزاز، وتبرز أسئلة مهمة عن معنى هذا النصر للأجيال الحالية والمقبلة.

كسر حاجز المستحيل وبداية الانتصار النفسي

بعد هزيمة عام 1967، بدا استرداد الأرض حلماً بعيد المنال. لكن التخطيط الدقيق، والتدريب المتجدد، وتصميم القادة والجنود أدت إلى تنفيذ عملية تكتيكية مفاجئة وممنهجة عبر قناة السويس، ما مكّن القوات المصرية من اختراق ما عُرف بخط بارليف. كانت ساعات الحرب تلك مدرسة في الإبداع والصلابة، ودفعت المجتمع كله إلى الاعتزاز بقدرة شعبه وجيشه على مواجهة التحديات.

عبور القناة وملحمة الهندسة العسكرية

نجحت القوات المصرية في عبور القناة ضمن خطة اعتمدت على عنصر المفاجأة والابتكار الهندسي  من التخطيط اللوجستي إلى تنفيذ عمليات معقدة بدقة متناهية. كانت سرعة التنفيذ وبسالة الجنود عاملاً حاسماً في تحويل مسار المعركة خلال ساعات قليلة من بدء العمليات.

إعداد الجندي.. العنصر الحاسم أكبر من السلاح

أحد الدروس الأبرز لنصر أكتوبر أن إعداد الجندي المصري تُعدّ أهم وأقوى من مجرد تصنيع الأسلحة. السلاح وحده لا يصنع معجزة؛ بل تُصنع المعجزة عندما يكون هذا السلاح في يد جندي مدرب، مُؤمن، ذي عقيدة وطنية راسخة، وقناعة بالدفاع عن الوطن مهما بلغت التضحيات. الاستثمار في الإنسان  بالتدريب، بالأخلاق العسكرية، بالوعي الوطني، وبروح الانضباط  هو الذي يحول المعدات إلى قوة فعّالة قادرة على تحقيق الأهداف الاستراتيجية.

التفوق التقني دون عقيدة.. لا يكفي

لا شك أن التفوق التكنولوجي للسلاح يغيّر من موازين القوة، لكن التجارب التاريخية تُظهر أن التفوق المادي لا يكفي إذا انعدمت الروح القتالية والعقيدة لدى من يستخدمونه. السلاح قد يمنح الأفضلية، لكن اليد التي تمسك السلاح والعقل الذي يُخطط به هما الفيصلان. الجندي الذي يمتلك قناعة وطنية وعقيدة راسخة لا يهاب الموت عندما يتعلق الأمر بالدفاع عن أرضه وعائلته، وهذا الإيمان هو الذي يضاعف قيمة أي معدات أو تقنيات.

 المقصود هنا ليس تشجيع الموت بعينه، بل التأكيد على أن الجندي الذي يرفض الاستسلام والذي يثق في هدفه ووطنه سيكون دائمًا العنصر الأهم في الدفاع والردع.

أحدث النصر زعزعة في موازين القوة الإقليمية، وأعاد للأمة شعورًا بالقدرة على المقاومة والتغيير. سياسياً، كان له أثر مباشر في دفع مسارات التفاوض التي تلاها اتفاقات إقليمية لاحقة أدت إلى استعادة أجزاء من الأرض وتحميل المحادثات الدولية طابععا جديدا من الاحترام لمطالب المنطقة.

تفاخر الأجيال وواجب الحفظ

يعتبر نصر أكتوبر اليوم جزءًا من الذاكرة الجمعية؛ إذ تربّيت أجيال على روايات البطولة والتضحية، ولا تزال الاحتفالات والمسيرات والعروض العسكرية والمواد التعليمية تُجسد ذلك الفخر. هذا التفاخر ليس مجرد اعتزاز بالماضي، بل دعوة واضحة للأجيال الحالية والقادمة لتحويل الذكرى إلى مسؤولية: الحفاظ على الوحدة الوطنية، تعزيز مؤسسات الدولة، ورفع مستوى جاهزية المواطن والدولة على حد سواء.

الاستعداد يعني البناء لا الحروب

الحديث عن القدرة على صنع “نصر” آخر إن دعت الضرورة يجب أن يُفهم كسطر في دفتر الاستعداد والدفاع لا كبند للتصعيد. الاستعداد يتطلب بناء مؤسسات قوية، تدعيم الصناعة الدفاعية، تطوير الإنسان، والحفاظ على عقلية دفاعية واعية تضع السلام والحوار كأولوية، وتعتبر الحرب آخر الملاذ. ومع ذلك، يكون لدى الأمة من العزيمة ما يكفي للدفاع عن سيادتها إن اضطرّت الظروف.

 ذاكرة تتحول إلى مسؤولية وعقيدة

نصر أكتوبر أكثر من انتصار عسكري؛ إنه اختبار لإرادة أمة ومؤشر على قيمة الإنسان في صنع التاريخ. الحفاظ على هذا الإرث يتطلب أن نستثمر في جندي يتمتع بالعقيدة، التدريب، والإيمان بدوره. فمهما تطورت أدوات الحرب، يظل العامل البشري ـــ الجندي الذي يملك قناعة لا تهاب الموت من أجل وطنه ـــ هو العنصر الفاصل بين الإمكانية والواقعية، بين السلاح الصامت وبين القوة الفاعلة. وفي كل ذكرى، تُطالَب الأجيال بأن تجعل من الفخر مسؤولية، ومن الذاكرة وقودًا للبناء والحماية لا للتهور أو السعي للحروب.

عبير عبد السلام الحجار 

كاتبة صحفية وإعلامية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى