أراء وقراءات

العدالة في العصر الرقمي: كيف تعيد “البلوك تشين” الثقة إلى ساحات القضاء؟

بقلم الباحثة/ ريم نبيل حامد

في عالمٍ يتسارع فيه إيقاع التكنولوجيا، وتتشكل الحقائق عبر خوارزميات ذكية، لم تعد الحقيقة كما كانت: صافية ومباشرة. بل باتت محاطة بضباب كثيف من الصور المفبركة، والأصوات المزيفة، والبيانات القابلة للتلاعب. هنا يطرح السؤال الأعمق على منظومة العدالة: كيف يمكن أن نحكم بالحق ونحقق الإنصاف في زمنٍ أصبح فيه الدليل نفسه عرضة للشك والتشويه؟

إن هذه المعضلة تمس جوهر الثقة في القضاء، فالأدلة الرقمية، على أهميتها المتزايدة في حسم القضايا، باتت من أخطر أدوات التضليل. ففيديو مُصطنع بتقنية “التزييف العميق” (Deepfake)، أو تسجيل صوتي مزور، أو صورة معدّلة ببراعة، كل ذلك قد يغير مصير إنسان بالكامل، ويهز أركان العدالة.

أزمة الثقة والأدلة الرقمية المتلاعب بها

شهدت السنوات الأخيرة تصاعدًا ملحوظًا في القضايا التي تعتمد على أدلة إلكترونية مشكوك في صحتها، خاصة مع الانتشار الواسع لتقنيات الذكاء الاصطناعي التي تُمكّن من إنشاء محتوى رقمي يصعب تمييزه عن الحقيقة.

في كثير من الأحيان، يجد القاضي نفسه أمام “حقيقة رقمية” تفتقر إلى اليقين، بينما يفتقر النظام القضائي إلى آليات تحقق فنية متقدمة يمكنها كشف التلاعب وتأكيد سلامة مسار الدليل من لحظة جمعه حتى تقديمه للمحكمة.

إن المحافظة على سلامة الأدلة الرقمية وأصالتها أمر بالغ الأهمية لضمان العدالة. أي تلاعب بهذه الأدلة يمكن أن يغير الحقيقة ويمنع تحقيق العدالة. ومع تزايد الجرائم الإلكترونية، يتصرف المهاجمون بسوء نية لتغيير هذه البيانات، مما يؤثر بشكل كبير على الأدلة الجنائية ويثير تساؤلات حول مصدرها وسلامتها.

البلوك تشين: ذاكرة رقمية حصينة للعدالة

في مواجهة هذه التحديات، تبرز تقنية البلوك تشين كحل واعد لإعادة بناء الثقة في الأدلة الرقمية وإضفاء الشفافية على الإجراءات القضائية.

فالبلوك تشين، وهي سجل موزع من المعاملات المشفرة والمرتبة زمنيًا في كتل، يمكن الوصول إليها من قبل جميع أعضاء الشبكة. وتضمن هذه التقنية المناعة ضد التلاعب والشفافية والأصالة من مرحلة حفظ البيانات وحتى التقرير النهائي.

 أبرز مزايا تطبيق البلوك تشين في المجال القضائي:

حفظ الأدلة بسلامة تامة: توفر البلوك تشين نظامًا آمنًا وغير قابل للاختراق لتخزين الأدلة والوصول إليها، مما يضمن سلامتها وأصالتها ويمنع الوصول غير المصرح به أو التلاعب بها. بمجرد تسجيل المعلومات على البلوك تشين، تصبح غير قابلة للتغيير تمامًا، مما يضمن موثوقية وأصالة الأدلة.

سلسلة حيازة شفافة وموثوقة: تُعد سلسلة حيازة الأدلة أمرًا حيويًا، لكن العنصر البشري قد يكون الحلقة الأضعف. باستخدام البلوك تشين، يمكن أتمتة وتأمين عملية تتبع الأدلة وإدارة سلسلة الحيازة والتحكم في الوصول إليها من خلال العقود الذكية، مما يضمن شفافية وسلامة العمليات الجنائية. كل إجراء داخل العملية الجنائية يسجل كمعاملة يمكن التحقق منها على البلوك تشين، مما يتيح تقديم حالة شاملة وغير قابلة للتلاعب في المحكمة.

الكفاءة والتقليل من الأخطاء البشرية: يمكن للعقود الذكية أتمتة المهام الروتينية وتتبع تقدم القضايا في الوقت الفعلي، مما يقلل من احتمالية الأخطاء البشرية والتلاعب.

التحديات التقنية والقانونية

ورغم ما تحمله هذه التقنية من وعود كبيرة، فإن تطبيقها في المنظومة القضائية لا يخلو من تحديات تقنية واقتصادية، على رأسها التكلفة العالية لإنشاء بنية تحتية رقمية مؤمنة قادرة على استيعاب كمٍّ ضخم من البيانات، إلى جانب الحاجة إلى تدريب الكوادر القضائية والفنية على التعامل مع هذه الأنظمة بمهارة ووعي قانوني وتقني متكامل.

كذلك، تظهر الحاجة إلى تحديث التشريعات القائمة لتمنح السجلات الرقمية المستندة إلى البلوك تشين حجيتها القانونية الكاملة، وتحدد آليات قبولها كأدلة أمام المحاكم.

الخصوصية… بين الانفتاح والأمان

البلوكتشين تقوم على مبدأ الشفافية المطلقة، لكن هذا الانفتاح قد يصطدم أحيانًا بضرورات الخصوصية وحماية البيانات الشخصية. فبعض القضايا تتطلب سرية كاملة لحماية الأطراف المعنية، وهنا يجب تصميم أنظمة بلوك تشين هجينة تحقق التوازن بين الشفافية المطلوبة لتحقيق العدالة والسرية اللازمة لصون الحقوق الفردية، من خلال تشفير انتقائي للبيانات وضوابط وصول محكمة.

تجارب دولية تُلهم الحل: ذاكرة رقمية نزيهة

قليل من الدول واجهت هذه المعضلة بجرأة وذكاء، واعتمدت على تقنية البلوك تشين كـ “ذاكرة رقمية نزيهة” تحفظ كل خطوة من مسار الدليل:

إستونيا: كانت سباقة في تطبيق نظام البلوك تشين داخل وزارة العدل، حيث يتم حفظ الأدلة والإجراءات القضائية في سجل رقمي لا يمكن تعديله. وقد أدى ذلك إلى تعزيز الثقة بين المواطن والدولة.

سنغافورة: أنشأت منصة لتوثيق الأدلة الرقمية عبر البلوك تشين، تُستخدم بنجاح في قضايا الابتزاز والجرائم الإلكترونية، وأثبتت أن التقنية يمكن أن تكون حارسًا للعدالة لا تهديدًا لها.

المملكة المتحدة: تعمل على تنفيذ برنامج تحديث واسع النطاق في محاكم إنجلترا وويلز، ينتقل من الطرق التقليدية إلى استخدام الأساليب الرقمية. وقد أوصت فرقة العمل المعنية بالاختصاص القضائي في المملكة المتحدة (UKJT) باستخدام تقنيات البلوك تشين في الإجراءات القانونية والممارسات القضائية، مع نشر تقريرها النهائي في يونيو 2023.

الهند: تواجه مشاكل مستمرة في نظامها القضائي مثل تراكم القضايا والتأخير والفساد. وتبحث في استخدام البلوك تشين لتأمين سجلات المحاكم وأتمتة المهام من خلال العقود الذكية، مع الاستفادة من أمثلة عالمية مثل إستونيا والصين.

الولايات المتحدة: بدأت بعض المحاكم في كاليفورنيا ونيويورك استخدام البلوك تشين لتتبع الأدلة في قضايا الشركات والتقنيات المالية، مما قلل حالات الطعن في مصداقية الأدلة بشكل واضح.

هذه التجارب أثبتت أن التقنية لا تهدد القضاء، بل تمنحه أداة قوية لتوثيق لا يقبل الجدل، وتساهم في بناء أنظمة قضائية أكثر كفاءة وشفافية.

الطريق لتعزيز نزاهة العمليات الجنائية والقضائية

يمكن لمصر أن تبدأ بتجربة واقعية داخل بعض الجهات القضائية الحيوية، مثل الإدارة العامة للأدلة الجنائية، والنيابة العامة الرقمية، أو المحاكم الاقتصادية. يمكن تطبيق نظام بلوك تشين وطني مؤمن لحفظ الأدلة وتوثيقها، مما يعزز نزاهة العمليات الجنائية والقضائية.

فمن خلال تطبيق هذه التقنية، يمكن ضمان تسجيل كل معاملة وإجراء يتم تنفيذه على البلوك تشين وتحديد وقت حدوثه بأمان، مما يخلق سجلًا لا يمكن الطعن فيه ويجعل أي تحقيق أكثر جدارة بالثقة.

يجب أن يواكب ذلك بناء قدرات الكوادر القضائية والتقنية على حد سواء لتشغيل هذه المنظومة بكفاءة، وضمان أمن البنية التحتية التي ستستضيف هذا النظام الوطني للبلوك تشين. كما يتطلب هذا التحول وضع إطار قانوني شامل لضمان شرعية وقابلية إنفاذ الأدلة المستندة إلى البلوك تشين.

ويمكن إعداد مشروع قانون متخصص بعنوان: “قانون حفظ الأدلة الرقمية وتأمينها باستخدام تقنيات البلوك تشين”، ليكون الإطار التشريعي الذي يمنح هذه التقنية حجيتها القانونية الكاملة داخل القضاء المصري.

ختامًا

البلوك تشين ليست مجرد تكنولوجيا حديثة، بل هي فلسفة جديدة في بناء الثقة والشفافية. إنها التقنية التي يمكن أن تجعل العدالة في مصر أكثر نزاهة في زمنٍ يُصنع فيه الكذب باحتراف. فإذا كانت الحقيقة اليوم تُزيف بخط من شيفرة، فقد آن الأوان أن نحميها بشيفرة لا تُكسر.

ريم نبيل حامد حسن

باحثة في القانون والاقتصاد الرقمي

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى