أراء وقراءات

السطر الأخير .. كلنا فاسدون.. كلنا فاسدون لا أستثني أحدًا

بقلم أيقونة الإتزان /السفير د. أحمد سمير

اليوم ومع كتابة هذه الكلمات فقد أتمت 50 مقالة كتبت فيها كل ما يجول في خاطري وعقلي ومشاعري لا أعلم من قراءة ومن لم يقرأ، لكن رغبت أن أكتب في هذه المقالة السطر الأخير لأجمع كل ما سبق في كتابي الأول عن القضية الفلسطينية (بين جدران غزة ودموع أطفالها)

وليكن السطر الأخير تلخيص لما سبق من أحداث للقضية وما هو سوف يأتي في المستقبل

لكني بعد محاولات كثيرة في كتابة السطر الأخير لم أجد أبلغ ولا أقصر مما قاله الفنان أحمد زكي في فيلم ضد الحكومة حيث وقف في المحكمة، ينفجر بمرارة رجل رأى الفساد بعينه وقال (كلنا فاسدون… كلنا فاسدون لا أستثني أحدًا)

للأسف حتى أنا رغم محاولاتي العديدة لفعل أي شي للقضية، حتى لو بقلمي أجد نفسي ضمن هذه العبارة بصورة أو بأخرى

فجملة كلنا فاسدون لا أستثني أحدًا تصلح اليوم لتكون العنوان الرسمي للمشهد العالمي أمام القضية فلسطين
فما يحدث في الضفة وغزة والقدس ليس فقط جريمة… بل فضيحة أخلاقية، والعالم كله يشارك فيها إما بالفعل… أو بالصمت… أو بالتبرير… أو بالتظاهر بأنه لا يرى شيئًا.

يخرج علينا القادة بوجوه متجهمة على شاشات التلفاز، ونبرة مكسّرة، وحديث طويل عن “القلق” و“ضبط النفس” و“حل الدولتين” …
ثم فور أن تنتهي المؤتمرات الصحفية، يوقّعون عقود السلاح، ويرسلون الذخائر، ويحمون إسرائيل دبلوماسيًا في كل محفل دولي.

الغرب…. فاسد لأنه لا يري إلا نفسه يدافع عن مصالحه، ويغسل يديه ببيانات إنسانية جاهزة يتم طباعتها قبل بدء المجازر، ثم يرميها في الهواء ليبدو “أقل فسادًا”
لكن الحقيقة؟  كلهم فاسدون… ولا نستثني أحدًا

القادة المتحولون؟ فاسدون… لكن بصمت ناعم وابتسامات دبلوماسية

القادة المتحولون اليوم يعيشون حالة غريبة من الشيزوفرينيا السياسية: يصدرون بيانات دعم لفلسطين في الصباح، ويعقدون شراكات، ويرفعون مستوى التبادل التجاري مع إسرائيل في المساء وبين هذا وذاك… تنمو المستوطنات، ويزداد الحصار، ويختفي الضمير.

المؤسسات الدولية؟ فاسدة… لكنها تجيد لغة التجاهل

غزة تُحرق، أطفالها يُقتلون، المدن تتحول رمادًا… والمؤسسات الدولية التي يفترض أنها حارسة القانون الدولي ترفض استخدام أسلوب الردع.

هذا ليس عجزًا… هذا فساد ناعم، ثقيل، يلبس بدلته الرسمية ويتحدث لغة القانون…
لكن في المحصلة؟ لا شيء يتحرك.

الإعلام العالمي؟ فاسد… لأنه يضع الكاميرا حيث يشاء ليظهر ما يريد

الإعلام الذي أقام الدنيا لأجل قطّة في مطار… أو حمار فقد أهله
هو نفسه الإعلام الذي يتلعثم حين يذكر كلمة “فلسطين”، ويلجأ لمصطلحات غامضة مثل “اشتباكات”، “تبادل إطلاق”، “قتلى مجهولو الانتماء”
كأننا في مسرحية عبثية ممنوع أن نعرف فيها من الظالم… ومن المظلوم.

الصمت الشعبي العالمي؟ فاسد… لكنه يتقن الاختباء خلف الشاشة

هناك ملايين حول العالم يرون المشاهد يوميًا… لكن يكتفون بتكشير الوجه، أو مشاركة فيديو، أو كتابة تعليق حزين، ثم يعودون لأكلهم، ومسلسلاتهم، ونومهم.
طبعًا، هناك من يكافح ويخرج للشوارع… لكن الأغلبية منفصلون عن الواقع كأن فلسطين ليست على الخريطة وأهلها ليسوا من بني البشر

السلطة الفلسطينية: فسادٌ داخليٌ يضاعف الانقسامَ واليأسَ
السلطة الفلسطينية التي وُجدت لتكون إطارًا حاكما لكل من هو فلسطيني ومدافعا عن حقهم وحق أرضهم فهم أبلغ صورة للهشاشة السياسية حيث هنا لا تُقاس فقط بفقدان القدرة على الحكم؛ بل بفقدان البصر والبصيرة في الحكم وفي قلب هذه الهشاشة السياسية، يعيش المواطن البسيطُ زمنَ تلاشي القيادات الحقيقية، وتبقى المعاناةُ حكايةً تُروى وان عبارةَ “كلنا فاسدون” هنا تُلامسُ الداخل: ليست تبرئةً للظالم، بل اعترافًا بأن الجبهة الداخلية غرقت في شبكات من الفشل المستمر.

النتيجة؟  الاحتلال يبتلع الأرض والطفل يموت مرتين: مرة تحت القصف، ومرة تحت الصمت والعالم يشاهد… ويهز رأسه… ثم ينتقل لخبر الطقس.

فالجملة التي صرخ بها أحمد زكي… أصبحت اليوم صرخة فلسطين للعالم كله

فحين ننظر لما يجري في غزة والضفة، نكتشف أن الفساد ليس مجرد رشوة أو إهمال…
إنه فساد أخلاقي عالمي، فساد بالصمت، فساد بالتواطؤ، فساد بالحياد، فساد بالتبرير.

نعم… كلنا فاسدون لا نستثني أحدًا.
من يقتل… ومن يموّل… ومن يصمت… ومن يحرّف… ومن ينكر…
الكل شريك في الجريمة، بنسب متفاوتة، لكنه شريك.

ويبقى السؤال الحقيقي:
هل سيأتي يوم يقف فيه العالم أمام المحكمة مثلما وقف أحمد زكي يضرب على صدره يقول: نحن أخطأنا… ونعترف.

أم ستظل فلسطين وحدها… تحمل الحقيقة على كتفيها بينما الآخرون يغسلون أيديهم من دمها… ويقولون بنفس البرود“نحن قلقون”
النداءٌ الأخير

ما نحتاجه الآن ليس مجرد بيانات استنكارٍ أو شجبٍ رمزيّ؛ نحتاج إلى إعادة بناءٍ أخلاقيٍ وسياسيٍ تبدأُ من الشفافيةِ والعدالةِ، وتمتد إلى تفعيلِ دور المجتمع المدني كحارسٍ للمساءلة لا يكفي أن نعترضَ من منابرٍ بعيدةٍ بينما تُمسكُ أيدينا أقلام واتفاقات تبيعُ القضيةَ قطعةً قطعة

الشجاعةُ الحقيقية تتطلبُ أن تُفضي القياداتُ بوصاياها أمام الشعوب، وأن تعودَ السلطةُ إلى الشعب لا لتكون سلطةً من أجل البقاء، بل أداةً من أجل التحرّر.

في النهاية قبل أن أختم هذه المقالة، لا أريد للختام أن يكون جملةً تُقال ثم تُنسى أريدها نهايةً تزيح الغبار عن الحقيقة، وتذكّر بأن الأمل ليس مشهداً رومانسياً؛ بل ثمنه الحقيقي محاسبة لا مجاملة، وضمير لا يساوم.

وإذا قلتُ “كلنا فاسدون”، فليست دعوةً للاستسلام، بل محاولة لإيقاظ الحسّ الذي خدرته الأعذار فمن نومٍ طويلٍ شرعن العنف، ومن رتابةٍ غذّت الطغيان، أصبحنا نحتاج إلى كلمة تهزّ أكثر مما تُطمئن.

ليست دعوةً للاستسلام

لهذا، لن يكون الختام تحية وداع، بل خطوة أولى في اتجاه آخر: أن نطهّر الضمائر قبل الشعارات، ونستعيد إيماننا الحقيقي قبل أن نطالب العالم بالعدالة عندها فقط، يمكن للكلمة الأخيرة أن تحمل معنى… لا أن تكون ديكوراً لغوياً.

السفير د. أحمد سمير

عضو هيئة ملهمي ومستشاري الأمم المتحدة

السفير الأممي للشراكة المجتمعية

رئيس مؤسسة الحياة المتزنة العالمية

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى