احدث الاخبار

تأملات مغترب في كتاب “حصاد الغربة “

 

عشت بكل كياني أيام مع كتاب “حصاد الغربة” لأستاذي مدبولي عتمان، تأملت الكتاب تأمل إنساني، فأنا لست بناقد أدبي، اللغة والسلاسة والتلقائية والغوص في أعماق النفس الإنسانية وهي تتكشف أمام عدسات الزمن ومطارق الحياة جذبتني بشدة لصفحات الكتاب، فكنت أقفز من سطر لسطر بقلبي ومشاعري أكثر من عقلي وأفكاري.

كانت رحلة صعبة وأنا أتنقل من دموع ندم أو حزن أو توبة إلى دموع أشد غزارة، ومن ألم نفسي وجسدي إلى ألم أشد، ومن حطام حياة إلى حطام أكبر وأشمل، كانت رحلة مشاعر مؤلمة وعميقة.

كيف لا تكون كذلك وأنا عشت الغربة أكثر من نصف عمري (٣٨ سنة غربة)، رأيت نماذج مما ذكره الأستاذ مدبولي، ونماذج أخرى أشد مرارة وألماً، وأحياناً تجرعت كأس المرارة بنفسي، فلم أحضر جنازة أمي التي كانت كل شيء في حياتي، ولا جنازة أبي الذي كاد أن يضحي بنفسه من أجلي، وكنت قريباً جداً من الأماكن التي ذكرها الأستاذ مدبولي في كتابه، فكان مجرد ذكرها يوقد في داخلي ذكريات كثيرة هنا وهناك.

تمنيت لو أني قرأت هذا الكتاب عام ١٩٨١م عندما وطأت قدماي لأول مرة أرض الغربة في مطار الظهران الدولي، في ذلك الوقت؛ قبل أن يتوقف ويتم استبداله بمطار الملك فهد الدولي بالدمام الآن؛ في أول وأطول رحلة غربة عشتها، كانت في رحاب جامعة الملك فهد للبترول والمعادن، طالباً وموظفاً ومحاضراً ومدرساً ومدرباً، تزوجت وتخرجت وعملت وأنجبت وربيت أبنائي في الغربة، واستمروا هم فيها، لكن عدت أنا إلى جذوري التي أحاول جاهداً أن أعيد إليها الحياة واحداً تلو الآخر، وإلى الحياة التي أصبحت غريباً عنها وغريبة عني، وجدتها لا تعرفني ولا أعرفها، لكنها الحياة في الوطن الذي يعيش فينا مهما كان قاسياً أو ظالماً، إنه الوطن.

الوطن الذي دفع أبناءه دفعاً للرحيل بحثاً عن حياة لم يستطع أن يوفرها لهم، ليعملوا في أوطان أخرى تحت وطأة الغربة القاسية بكل ما فيها، الاحترام والتقدير مفقود، والاستعباد تتعدد صوره وأشكاله، فيتحول البشر إلى عبيد تحت رحمة الكفيل، خصوصاً إذا كان معدوم الضمير، والحقيقة أن من يهان في وطنه يهان خارج وطنه، قيمة المواطن في الخارج، تحددها قيمته في الداخل.

عشت مع انهيار الأسر وأنا أتصفح الكتاب، وتذكرت جانباً آخر مشرق صنعه المغتربون، وانجازات تفوق الوصف لمصريين في الغربة، حتى في السعودية، هل تعرفون أن أول سفينة تم بناؤها في ميناء الدمام بالسعودية كانت تحت إشراف كامل من مهندس مصري كان يعمل سابقاً في شركة الترسانة البحرية بالإسكندرية، اسمه المهندس حسن خليل، الذي أنشأ أول شركة لبناء السفن في السعودية وهي “الزامل لبناء السفن”، أعطى عمره وعرقه للمشروع الذي بدأه من الصفر، وقد حضرت حفل تدشين أول سفينة تم تجميعها بالكامل في حوض بناء ميناء الدمام، ودشنها أمير المنطقة الشرقية، كانت لحظة رائعة والسفينة تشق طريقها في المياه، وكأنها تقول “نعم نحن نستطيع”.

ومن الأمثلة الأخرى التي أذكرها على سبيل المثال لا الحصر، الدكتور فاروق الباز والدكتور مجدي يعقوب والدكتور أحمد زويل وغيرهم الكثير، أعطوا علمهم وجهدهم خارج وطنهم الذي لم يجدوا فيه المناخ المناسب لمواهبهم، لكن ظل حبهم لمصر نابضاً في قلوبهم، وكلما ناداهم الوطن لخدمته لبوا النداء بشوق، فما أحب على الإنسان من أن يكون معول بناء في صرح الوطن لينعم فيه أبناءه بحياة كريمة تليق بالإنسان.

حصاد الغربة مع الأسف، هو حديث عن نزيف الوطن من زاوية أخرى، أو هو الوجه الآخر لنزيف الوطن، عندما يكون طارداً لأبنائه.

لكن العلم والمعرفة والخبرة التي اكتسبها الكثير من المغتربين تنتظر على أحر من الجمر، نداء الوطن ليساهموا في إعماره، عندما لا يكون نداء شعارات جوفاء، بل توفير المناخ المناسب للعلماء والباحثين والمبدعين والمخترعين.

أما ما نملكه الآن فهم الشباب الذين يعيشون داخل الوطن، ويمثلون مستقبله، فإما أن يكون شباب ضائع، أو شباب صانع يدير عجلة الحياة، ويجدد دماء الوطن، ويأخذه إلى مكان يليق به في العالم الذي لا يقدر إلا المعرفة والإنجاز.

مرة أخرى، خالص شكري وتقديري لأستاذي مدبولي على هذا الكتاب الرائع، الذي خرجت منه بأن البكاء على اللبن المسكوب لن يجدي، ولكن أولى منه الحفاظ على اللبن الموجود، لصناعة المستقبل المنشود

تأملات مغترب في كتاب "حصاد الغربة " 4

بقلم: د. أمين رمضان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.