البحث العلمي عبر العصور.. بقلم : الدكتور عبدالباقي أبوزيد
يعد البحث العلمي ركناً أساسياً من أركان المعرفة الإنسانية في ميادينها كافة, فأهمية البحث العلمي ترجع إلى أن الأمم أدركت أن عظمتها وتفوقها ترجع إلى قدرات أبنائها العلمية والفكرية، ولقد تطور البحث العلمي عبر التاريخ الإنساني، ففي العصور القديمة التي عاش فيها المصريون القدماء والبابليون واليونان والرومان. كان اتجاه التفكير لدى قدماء المصريين اتجاهاً علمياً تطبيقياً، حيث برعوا في التحنيط والتخطيط والهندسة والطب والفلك والزراعة، كما أسس المصريون القدماء حضارة علمية في الصيدلة والكيمياء يقول عنها المؤرخ جابين “إن المصريين كانوا منجماً اغترف منه الأقدمون العقاقير وأوصافها المذكورة في أعمال ديسقوريدس وبليني وغيرهما،
أما بالنسبة لقدماء اليونان فقد كان لهم إهتمام بالبحث العلمي حيث أنهم اعتمدوا على التأمل والنظر العقلي المجرد فقد وضع أرسطو قواعد المنهج القياسي والاستدلالي في التفكير العلمي، كما فطن أيضاً للاستقراء، وكان الطابع التأملي هو الغالب على تفكيره، واعتمد اليونان أيضا في بنائهم العلمي على الاكتشافات السابقة التي سجلها المصريون والبابليون ومن أبرز علمائهم البارزين في هذا المجال فيثاغورث في الجغرافيا والرياضيات والفلسفة (600 قم) وديمقراطس الذي اقترح نظرية التنافر الذري لشرح تركيب المادة (400 ق م)، وبطليموس الذي وضع أول نظرية ملائمة عن حركة الكواكب في القرن الثاني الميلادي،
ويعتبر الرومان ورثة المعرفة اليونانية ويتركز إسهامهم في الممارسة العلمية أكثر من متابعتهم لها وكانوا صناع قوانين ومهندسين أكثر منهم مفكرين متأملين.
وفي العصور الوسيطة التي ازدهرت فيها الحضارة الإسلامية وفترة عصر النهضة في أوروبا، وتمتد تلك الفترة من حوالي القرن الثامن حتى القرن السادس عشر الميلادي، وقد أفاد المسلمون في هذه الفترة من العلوم السابقة للمصريين القدماء والإغريق والرومان واليونان، وتعتبر الحضارة الإسلامية حلقة الاتصال بين الحضارات القديمة كحضارات المصريين والإغريق والرومان واليونان وبين من بعدهم في عصر النهضة الحديثة، ولم يكتفوا بنقل حضارة من قبلهم فقط بل أضافوا إليها علوماً وفنوناً تميزت بالأصالة العلمية، فالفكر الإسلامي تجاوز الحدود الصورية لمنطق أرسطو، أي أن العرب عارضوا المنهج القياسي وخرجوا على حدوده إلى اعتبار الملاحظة والتجربة مصدرا للبحث العلمي.
كما أن العرب قد أتبعوا في إنتاجيتهم العلمية أساليب مبتكرة في البحث، فاعتمدوا على الاستقراء والملاحظة والتجريب العلمي والاستعانة بأدوات القياس للوصول إلى النتائج العلمية، وقد نبغ الكثير من العلماء المسلمين في مجال البحث العلمي مثل الحسن بن الهيثم وجابر بن حيان والخوارزمي والبيروني وابن سينا وغيرهم، وقد شهد على نبوغ العلماء العرب في هذا المجال الكثير من رواد النهضة الأوروبيين وعلماء الغرب المنصفين مثل: العالم الأمريكي “جورج سارتون” الذي قال أن العرب أعظم معلمين في العالم في القرون الوسطى ولو لم تنقل إلينا كنوز الحكمة اليونانية لتوقف سير المدنية لبضعة قرون، فالعرب قد أسهموا بإنتاجهم العلمي في تقدم الحضارة وأسهموا باصطناع منهج الاستقراء واتخذوا الملاحظة والتجربة أساساً للبحث العلمي، وقد أفاد رواد النهضة الأوروبية من العلوم العربية التي خلفوها لهم واعتمدوا عليها في بناء أسس الحضارة الأوروبية الحديثة.
وعلى الرغم من ذلك فما زال التنكر للتراث العربي الإسلامي ودوره في خدمة الحضارة العالمية لا يزال قائماً، ويرجع ذلك الى أسباب عديدة من أهمها: النقص الشديد في علم الباحثين بهذا التراث، فالكثير من المخطوطات العربية العلمية التي تغطي الكثير من مجالات العلم والمعرفة لا تزال دفينة أرفف المكتبات وغيرها في الشرق والغرب على السواء، بالإضافة إلى ما يعانيه الباحثون في هذا المجال من صعوبات في الحصول على هذه المخطوطات لإجراء الدراسات حولها، فضلاً عما كان لغارات المغول والتتار والترك والاستعمار من أثر واضح في القضاء على جزء ليس بالقليل من هذا التراث، كذلك نجد أن ما نقل من هذا التراث الى أوربا عن طريق الحروب الصليبية وحركة الترجمة في صقلية والأندلس وانتحال المترجمين كثيرا من مصادره لأنفسهم ولم ينسبوه الى أصحابه. كل هذه الأسباب كان لها دور أساسي في التنكر لدور التراث العربي الإسلامي في خدمة الحضارة الإنسانية.وهنا يجب أن نقرر الحقائق التالية:
(1) إذا كان علم الطبيعة قد نشا في أوربا على يد ( جاليليو 1642م ) و (نيوتن 1727م) فقد كان للعرب السبق في ذلك على يد( ابن الهيثم) في علم البصريات 1209 م.
(2) إذا كان علم الكيمياء ترتد نشأته في أوربا إلى ( لافوازين 1794م) فقد سبق إلى ابتداعه شيخ الكيميائيين المسلمين ( جابر بن حيان 813م).
(3) إذا كانت نشأة علم التشريح تدين بالفضل في أوربا إلى ( فيساليوس 1564م) وعلم الطب إلى ( باراسلوس 1541م) وعلم الأحياء إلى ( كلود برنارد 1878م) فإن مقومات هذه العلوم قد عرفت عند العرب متمثلة في جالينوس العرب كما كان يسمى (أبى بكر الرازي 932م) وأبقراطهم ( ابن سينا 1037م) وأكبر جراحيهم ( أبي القاسم الزهراوي 1013م) وكاشف الدورة الدموية ( ابن النفيس 1288م).
(4) وإذا كان أول رواد علم الفلك في الغرب هو ( كوبرنيكس 1543م) ثم ( جاليلو 1642م) فإن نشأة الفلك كعلم تجريبي تدين لعلماء العرب من ( أبي معشر البلخي 595م) و ( ابن يونس المصري 1008م) و( البيروني 1048م) وغير هؤلاء ممن يعدون ألمع الأسماء في تاريخ العلوم التجريبية.
وفي العصر الحديث منذ بداية القرن السابع عشر الميلادي حتى وقتنا الحاضر اكتملت دعائم التفكير العلمي في أوروبا، وأمريكا وأخذا يتربعان على عرش التقدم العلمي والتكنولوجي.
ويعد تخصيص جريدة “وضوح” باباً من أبوابها للبحث العلمي دليلاً على إدراك القائمين عليها لأهميته في حياة الأمم والشعوب في القرن الحادي والعشرين، وسيعمل هذا الباب على إلقاء الضوء على المنجزات العلمية في المجالات المختلفة على مستوى العالم، من خلال عرض نتائج الدراسات والبحوث العلمية، وتوصيات المؤتمرات، وسير بعض العلماء الذين كان لهم دوراً في تقدم البشرية.